Culture Magazine Thursday  12/03/2009 G Issue 274
الملف
الخميس 15 ,ربيع الاول 1430   العدد  274
شجرة البؤس العربية:
قراءة ما لم يقرأ في (شقة الحرية)
تركي علي الربيعو

 

ما بين (شجرة البؤس) رواية عميد الأدب العربي طه حسين الصادرة مع بدايات القرن العشرين، ورواية (شقة الحرية) للشاعر والروائي غازي القصيبي صاحب (العصفورية) التي اعتبرها أحد المفكرين العرب (منفيستو) الثقافة العربية في القرن العشرين، كذلك روايته المحببة (أبو شلاخ البرمائي) (التي يحلق أبطالها على طريقة أبطال الأساطير والخرافات القديمة)، أقول ما بين هذه وتلك، ثمة مسافة زمنية تمتد على طول القرن، الرواية الأولى كما أسلفت صدرت في بدايات القرن المنصرم، في حين صدرت رواية القصيبي في نهايته، وبالضبط في أواسط العقد الأخير من القرن المنصرم، ولكن ما يجمع بين الروايتين، بصورة أدق، بين أبطال الرواية، هو اعتقادهم بالسحر والخرافة، وذلك على ما بين أبطال الرواية من تباين، هو تباين الفلاح البسيط والمركون في زاوية مهجورة في العالم والمثقف المنحدر في الأغلب من الطبقة الوسطى الذي جاء للدراسة في أم الدنيا، أي في العاصمة القاهرية، والذي ينتفي ويضمحل لاعتقاد الاثنين بالخرافة والسحر.

(في رواية (شجرة البؤس) وهو عنوان دال حيث شجرة البؤس لا تزال تعطي أكلها في ثقافة عربية ما ملّت من الدوران من حول بؤسها الفكري والروحي والسياسي، كما يتجلى في أساطير الزعيم التي تملأ الحياة السياسية العربية إلى الدرجة التي تصم فيها الآذان، دون أن تكون قادرة على الانعتاق منه، يروي لنا طه حسين واقع الريف المصري الذي هو كواقع أريافنا الحالية، ونقول مدننا العربية التي يتكاثر بها السحارون والدجالون من كل صنف ونوع، والذين عادة ما يكلفون بقراءة طالع الزعيم وطالع سلالته من بعده والى أبد الآبدين، وينبهونه إلى الأخطار التي تحيط به وإلى العمليات الإرهابية التي قد تطاله. أقول يروي لنا واقع الجماهير الريفية البسيطة وإيمانها العميق بالسحرة والسحر ودوره في تغيير حياتهم، من حال إلى حال، تروي أم رضوان بطلة الرواية ما يلي: كنت أخبز في قريتنا لجارة ذات مساء كما أخبز الآن، وكانت صاحبة الدار أم عثمان جالسة معي بين أتراب لها وجارات.. ولم تكد امرأة من القرية تخبر الجميع بما رأت وسمعت: حتى رأينا أم عثمان قد ثارت مولولة، فنفضت شعرها ومزقت ثيابها، وجعلت تلطم وجهها، وتضرب صدرها، ونحن نحاول أن نردها إلى الهدوء ونسألها عن أمرها، ولكنها بعد حين تثوب إلى نفسها قليلاً.. ولكن ما راعنا إلا أن رأيناها تقذف نفسها في التنور، فلا نرى لها أثراً ولا نسمع لها حساً.

كانت جنية، تمثلت لأبي عثمان امرأة فتزوجها وولدت له ابنه عثمان، ثم جاءها النبأ أن أخاها يحتضر، فأسرعت له قبل أن يموت وسلكت إليه أقرب الطرق وهو التنور حين يكون ملتهباً والجنيات يألفن التنور، ولذلك لا ينبغي أن يحمى التنور دون أن يذكر اسم الله عند إشعال النار، فإن ذلك يطرد منه الشياطين ويؤذن المسلمات بأنه سيحمى فيخرجن منه قبل أن يدركهن شيء من النار).

هذا ما يرويه طه حسين، وهو واقع ما زالت وقائعه تترى في أريافنا ومدننا كما أسلفت، أما ما يرويه القصيبي فمختلف، ففي (شقة الحرية) التي هي مثل الكثير من الشقق في معظم العواصم التي تعج بالمتعة والجنس المرخص باسم الحرية والسياحة، يعيش مجموعة من الطلبة القادمين من البحرين، لنقل من جزيرة دلمون كما تقول الأسطورة، الجزيرة التي كانت موئلاً يتعايش بها الذئب مع الحمل كما تقول الميثولوجيا الرافدية عنها، في الرواية، هم أربعة طلاب، جاؤوا إلى جامعة القاهرة (فؤاد وقاسم وعبد الكريم ويعقوب) لدراسة القانون وعلم الاجتماع. وقد جاؤوا من بيئات مختلفة في البحرين، منهم الغني كما هو حال قاسم ومنهم الفقير الملتهب حماساً لعبد الناصر والثورة كما هو حال فؤاد، ومنهم من هو شيخ ابن شيخ حتى جده السابع، صاحب الكرامات ورائد الفحولة الجنسية وهذا ما يسر حفيده عبدالكريم.. يخبرنا القصيبي أن عبد الكريم كان (طيب القلب إلى حد السذاجة، كريم إلى حد السفه، وفيّ إلى أبعد الحدود. إلا أن مزاجه سريع التقلب. بينما تراه سعيداً يضحك من الأعماق تفاجأ به، بعد دقائق، وقد دخل موجة من الكآبة السوداء تستغرق أياماً. وكثيراً ما تكون كآبته مرتبطة بالوسوسة والخوف من المرض).

ما يهم أن عبد الكريم الذي يعاني صراعاً هائلاً في أعماقه، بين تربيته الدينية الصارمة ورغبته في التمرد حيث نجح في الذهاب إلى القاهرة لدراسة القانون في جامعتها، بدلاً من الذهاب إلى الحوزة العلمية في النجف لدراسة العلوم الدينية، أقول ما يهم، أن عبد الكريم وبعد كثير من التردد، يعشق فريدة الطالبة في الآداب، المغناج والجميلة على العكس من طالبات كلية الحقوق القليلات، ممن غابت عيونهن وراء نظاراتهن السميكة، يتحرر من حالة الانطواء، لكن فريدة المغناج تخذله، وتتزوج من غيره، يعود عبد الكريم بعدها إلى دوار المرض، يصبح مأزوماً كحال معظم العرب ولا يجد حلاً لأزمته إلا بالاندفاع إلى عالم الخرافة، وهذه أيضاً حال معظم العرب، بصورة أدق إلى عالم السحر، فيقرر بملء إرادته أن يدخل إلى عالم الروح، ولكنه يصبح عاجزاً عن الخروج منه، فقد وجد فيه الحب والتفهم والإثارة والمعرفة، ينغمس في حوارات مطولة مع روح جدته المدفونة في البحرين، يسألها عن كل شيء: الموت، الحياة ما بعد الموت، علاقة الموتى بالأحياء، وطبيعة عالم الروح. يسألها عن فريدة. فتجيب الجدة:

- الإبليسة! عملت لك سحراً!

- ولكنني أحببتها قبل أن تعرف أني أحبها.

- عملت لك سحراً لكي تتزوجها، ثم تزوجت هي، وظل سحرها يعمل حتى أبطلته أنا.

- كيف أبطلتيه؟

- تصارعت مع الجن وغلبتهم. وشفيت أنت.

- ومن الذي عمل السحر؟

- ساحر في إمبابة.

- تعرفين إمبابة جدة؟

- طبعاً كريم.

يظل كريم على هذه الحال أياماً، يخاطب جدته من خلال قلمه، يتدخل زملاؤه، لكنه يرفض بشدة فالروح والسحر حقيقتان علميتان تدرسان في أرقى الجامعات الأمريكية والأوروبية. وعندما يتدخل زملاؤه إلى أخذه إلى طبيب نفسي يرفض، ثم يعود القهقرى إلى غرفته التي يقفلها بالمفتاح، ثم يجري القلم والورقة (أدوات السحر) ويعود إلى أحضان جدته التي تضمه وتقبله. يعود طفلاً صغيراً، ويتحرك القلم ليسمع صوت جدته:

- أعرف! سمعت ما قالوه هؤلاء الأبالسة! هؤلاء ليسوا أصدقاءك! إنهم أعداؤك! شاركوا في عمل السحر! والآن يريدون قتلك!.

يعود عبد الكريم من أوهام الطفولة إلى القلم الذي ينزلق الآن على الورقة بسرعة هائلة لا يكاد معها يتبين الكلمات.. تقول الجدة:

- سيدخلون الآن ويقتلونك بالسكين! مثل الخروف! سيكسرون الباب الآن! ولكن لا تخف! أنا معك! افتح الشباك واقفز منه (الشباك في الدور الرابع) سأحملك بين ذراعي. اقفز الآن!.

تنطلق صرخات حادة من الغرفة ويتدافع الرفاق. يسمع عبد الكريم الدقات. ولكنه لا يستطيع أن يتحرك وتمر الثواني. والدقات تعلو. وصراخه يرتفع ثم يوقف يده اليمنى واليسرى ويكسر قلمه. ويمزق الورقة. ويفتح الباب:

- أرجوكم! أرجوكم. ساعدوني!

وترد المجموعة بصوت واحد:

- ماذا حدث؟

- القلم! الروح! جدتي! طلبت مني الانتحار!

إنها شجرة البؤس، التي تنتج أغصانها أم عثمان وعبد الكريم، فالاثنان من شجرة واحدة قاعها الخرافة وأغصانها الإيمان بالسحر. وكلاهما أم عثمان وعبد الكريم لهما الجذر نفسه، فالأولى هي بالأصل جنية تزوجت من بشر، وهو اعتقاد راسخ في الثقافة العربية قبل الإسلام وحتى بعد الإسلام، فكثيراً ما تحدثنا كتب الأساطير العربية عن التزاوج بين البشر والجن، ففي كتاب (آكام المرجان في أحكام الجان) لبدر الدين الشبلي (ت769 هجرية) يروي الشبلي أن أحد أبوي بلقيس ملكة اليمن التي ورد ذكرها في القرآن الكريم كان جنياً.. كان أبوها من عظماء ملوك اليمن، تزوج امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن، فولدت له بلقيس، وتسمى بلقمة، ويقال إن مؤخر قدميها كان مثل حافر الدابة، وهذا ما كان يسمى في الأدبيات الإيروتيكية العربية ب(غرام الثقلين) كالغرام الذي حصل بين الجارية الفزارية وبين الجني كما تحدثنا كتب الجواري، لا بل إن صاحب الحيوان الجاحظ ذهب في تفسيره لمرض الصرع على أنه نتيجة لغرام الثقلين أي الحب بين الأنس والجن وبالعكس، وهي نفس الميثولوجيات الكبرى التي تتحدث عن التزاوج بين آلهة الأولمب وبين النساء الاثينيات الجميلات، كما هو الحال عندما تزوج زيوس من ألكميني الحسناء وانجبا هرقل. وفي المقابل نجد في كتاب العربية الخالد وأقصد ألف ليلة وليلة نسقاً من السرديات الكبرى التي تتحدث عن التحولات المتتالية من البشر إلى الحيوان والجن وبالعكس، كذلك العديد من حالات التزاوج بين الأنس والجن؟

إن عبد الكريم هو شيخ ابن شيخ حتى جده السابع صاحب الكرامات المعروفة في البحرين، وصاحب الكرامات كما تحدثنا الملامح القديمة، كما هي ملحمة جلجامش، عادة ما يكون من أصل سماوي، أو هو على الأقل، ثلثاه من مادة الآلهة وثلثه من البشر، وهذه هي أيضاً حالة التزاوج بين الآلهة والبشر كما تحدثنا الملامح الرافدية القديمة.

ما يلفت النظر أيضاً، هو شخصية أم عثمان، فهي امرأة وجنية بآن، وهذا ما يعكس الاعتقاد الشعبي الديني السائد بأن المرأة شيطان لأن الشيطان يحلو له دائماً أن يتزيا بزي امرأة، وهنا يكمن مصدر الغواية الفطري والتاريخي بآن، وتكمن معظم طقوس التحول والعبور من إلى، لنقل من الحالة الجنية إلى الحالة الإنسية وبالعكس، وهنا تكمن وظيفة التنور من حيث هو طقس عبور، حيث النار، لنقل بحسب المسيحية، حيث معمودية النار التي توازي معمودية الزيت والماء والجنس في الميثولوجيات القديمة. إن أم عثمان تختار كما تقول الرواية أقصر الطرق لتعود إلى حالتها الجنية الأصلية، فهي لا تحترق بالنار بل تعبر من خلالها، أما عبدالكريم الجامعي وابن القرن العشرين، فهو يحجم عن عبور النافذة، ويستنجد برفاقه، فعبور النافذة يعني هلاكه، في الحقيقة هو يصحو على دائرة السحر والخرافة التي تحيط به، وهذا هو المفروض من المثقف، ولعل هذا ما أراد قوله القصيبي.

وهنا يكمن الإشكال والمشكلة معاً، فقد بنيت آمال عريضة على التعليم ليصبح بدوره طقس عبور، من التخلف إلى الحداثة، وما يلفت النظر أن رقى الحداثة وتمائمها لم تعصم عبد الكريم ولا غيره من شياطين الخرافة، وها هي تحوم من حولهم، تغويهم على الركض من حولها، وقد تدفعهم إلى الباحة الواسعة لل(العصفورية) رواية القصيبي الرائعة التي يشبهها الأنصاري ب(منيفستو) الحداثة العربية (محمد جابر الأنصاري، مساءلة الهزيمة، 2001).

(إن الفارق بين عبد الكريم وأم عثمان يتضاءل تحت وطأة إيمانهم الثابت بالسحر والخرافة، بحيث يبدوان وكأنهما (عبد الكريم وأم عثمان) وجهان لحقيقة واحدة ما زالت تتملكهما على مر العصور، وتتملكنا نحن أبناء هذا الجيل من بعدهما، وتتمثل في هذا الإيمان العجائبي بقوة الخرافة، وإذا كانت أم عثمان هي في معظم وجوهها الخرافة نفسها، فإن إيمان عبد الكريم الشاب الجامعي المتعلم، بالخرافة، يعكس واقعاً عربياً هشاً بين المتعلمين الذين ما ملّوا من إنتاج الخرافات السياسية حول مستبدينا القوميين الذين يعلمون الجهر وما يخفى (حاشى لله).

كما أسلفت، فإن عبد الكريم لا يلقي بنفسه إلى النافذة، وبذلك يصحو من هالة الخرافة والسحر الذي تحيط به، والسؤال هو: في واقع عربي يعيش تخلف الثقافة وثقافة التخلف على حد تعبير خلدون حسن النقيب، ألا يحتاج الأمر فعلاً إلى بيان من أجل التخلف العربي كما دعا إلى ذلك المفكر العربي محمد جابر الأنصاري مع بداية الألفية الجديدة، وأخص بذلك كتابه (مسألة الهزيمة، 2001) والى بيان من أجل الخرافة التي تعشش بين ظهراني ثقافتنا، وأخص مرة أخرى الخرافة السياسية التي تحيط عادة بالزعيم المفدى، المعبود والملهم من جماهير تتعبد صورته الساحرة، والذي قد لا يمثل تطلعاتهم، بل تصوراتهم عن المخلص الأسطوري الذي يأتي من غياهب المجهول، الزعيم المنتظر الذي يفتدى عادة بالروح والدم كما في الميثولوجيات القديمة، حيث للملك أو الزعيم أو المخلص عهد أبدي في دم رعاياه، والتي مازالت تقف حائلا دون بلوغ حالة من العقلانية السياسية كثر الطلب عليها في العقود الأخيرة دون أن نعثر على أي عرض أو مردود؟

إن عبد الكريم يصحو من خرافاته وما أكثرها، ولكن لكي يكون صحوه صحيحاً، عليه أن يسيج وعيه بمزيد من الأسئلة: ما هي (الخرافة) وما هو حجم المنجز في هذا المجال، بمعنى أدق ما هو حجم الدراسات وكميتها ونوعيتها التي طالت الخرافة في العقود المنصرمة التي عرفت مزيداً من الانكسارات والهزائم في السنوات الأخيرة وحتى بداية الألفية التي سقطت فيها بغداد تحت أقدام الاحتلال؟ ويسرني هنا بالجهود التي بذلها بعض المفكرين العرب وأخص منها الجهد الذي بذله ابراهيم بدران وسلوى الخماش في (دراسات في العقل العربي: الخرافة) وهي جهود ريادية بتنا نفتقر إلى مثيلاتها ونحن نلج عتبات الألفية الجديدة؟ وهل العقل العربي خرافي كما يستنتج للوهلة الأولى؟ وهل الإيمان بالخرافة كان حكراً على الإنسان العربي؟ أم أن كل الشعوب العالمية تنتج خرافاتها؟ أين تعشش الخرافة في مجتمعنا العربي الإسلامي؟ ومن أين تسمد وجودها واستمراريتها؟ هل هي حصر في سلوك الفلاحين البسطاء كما تجسدهم أم عثمان؟ أم أن أبناء الطبقة الوسطى كما يجسدها عبد الكريم هم أيضا نهب للخرافات؟

في كتابهما الهام الذي جئنا على ذكره دراسات في العقلية العربية: الخرافة (ذهب ابراهيم بدران وسلوى الخماش إلى القول إن المواقف الخرافية الكامنة أو على الأصح الذهنية الخرافية المغلفة بقشور رقيقة من التعليم الابتدائي أو الثانوي أو الجامعي هي الأكثر خطورة، لأنها تشكل جوهر العقلية الاجتماعية التي يرتبط بها التغيير الحقيقي الذي قد يطرأ على المجتمع، من هنا مصدر العجز العربي الذي يغلف العقل العربي في تصديه للمشكلات الكبرى، وهنا يصح التساؤل: كيف يمكن لشخص مثل عبد الكريم العاجز عن البوح بعواطفه، واليائس عن فهم العالم الذي يحيط به، أن ينجح في تجاوز ثقافة التخلف باتجاه سقف التاريخ الحداثوي، إنه يصحو، ولكن كما أسلفت، لا ضامن لصحوه، فقد يكون صحواً بين غيبوبتين، وهذا ما يفسر حالة التردي الحضاري التي نعيشها، كذلك كثرة الهزائم التي تمر بها الأمة، وهذا ما يفسر ما قاله صادق جلال العظم في إطار نقده الذاتي للهزيمة: إن العقل العربي (أو بالأحرى الخيال العربي) لا يزال يميل ميلاً شديداً إلى الأخذ بأبسط التفسيرات لمجرى الأحداث التاريخية وأكثرها سذاجة، وهذا ما دفع بدران وسلوى الخماش إلى القول (إذا كان الإنسان العربي قد بدأ تدريجياً، وببطء شديد، بالتخلص من بعض المظاهر الشكلية للخرافة، فإن الميكانيكية الخرافية ما زالت تعمل في العقل العربي لتعطيل الميكانيكية العقلانية العلمية. ذلك أن مفهوم الشيطان أو الأفكار الخرافية عموماً تحرم العقل العربي من أدوات التحليل العلمية التي تتطلب عادة قدراً كبيراً من الجهد والمتابعة والمسؤولية وتحتاج إلى مثابرة وتقص مضنيين، سواء على مستوى الفرد أو المؤسسة أو المجتمع، في الوقت الذي تقدم المفاهيم الخرافية ختماً مطاطياً للتحليل، يحمل كلمتين يمكن استعمال إحداهما عند الرضا، واستعمال الأخرى (من فعل الشيطان) فيما دون ذلك).

بقي أن أقوله، إنه وبالرغم من وجاهة (النقد الذاتي) الذي أعقب هزائمنا الكبرى، وعلى الرغم من توصيفه الدقيق لمظاهر الخرافة التي تحف حياتنا المجتمعية، كذلك خرافتنا السياسية حول الزعيم الذي لا يقهر ولا يلقى القبض عليه (عدد كبير من الخرافات صدرت عند القاء القبض على الرئيس العراقي صدام حسين التي تذهب إلى أن الملقى القبض عليه هو شبيه صدام أو صناعة أمريكية) أقول على الرغم من أن هذه الدراسة قد سيجت نفسها بالمزيد من الأسئلة في سعيها إلى تطهير المجتمع العربي والعقل العربي والسياسة العربية من جرثومة الخرافة الأبدية، إلا أنها بقيت قاصرة عن إدراك كنه الخرافة، فالخرافة لا تنتمي إلى الماضي السحيق وحده، والخطاطات التطورية التي جاءت بها الماركسية والأيديولوجيات التطورية وغيرها، لا تنجح في البحث عن ماهية الخرافية، من هنا فإن التساؤل المهم: هل مضمون الخرافة عرضي؟ وإذا كان كذلك كما تذهب إلى ذلك الدراسات النقدية المتعجلة والمحكومة بهواجس أيديولوجية وشواغل ظرفية جامحة التي أعقبت الهزائم المتتالية، كيف نفسر انتشارها من أقصى الأرض إلى أقصاها؟ وكيف نفسر ديمومتها في أشكال ثقافية تمتد على سبيل المثال من (ألف ليلة وليلة) إلى رحلة الملك سيف بن ذي يزن إلى معظم الحكايات والروايات المعاصرة التي تتوسل الخرافة والأسطورة في الوصول إلى أهدافها؟ والأهم كيف نفسر في عصرنا الحاضر هذا الهوس بالخرافة (انظر على ذلك التفسيرات الشعبوية وكذلك التحليلات العديدة لأحداث الحادي عشر من أيلول 2001)؟، وكيف أصبحت هوليوود مصنعاً لانتاج مزيد من المسوخ والسحرة والشياطين القادمة من كواكب وأفلاك لا حصر لها، بحيث يمكن القول إن ما يجمع هوليوود بجبال الأولمب في الميثولوجيا الإغريقية هو كثرة المسوخ والشياطين.

ما أريد قوله، إن الإنسان كائن خرافي، والفرق بين حضارة وأخرى، هو في فائض المخزون الخرافي، الذي ما زال يكبح كل محولاتنا لتأسيس عقلانية جديدة تكون القاعدة لنهضة جديدة ويحول دون بلوغنا أول الطريق باتجاه سقف التاريخ؟ وهنا يكمن التحدي الذي يواجه الثقافة العربية في سعيها إلى بناء عالم جديد وحياة ثقافية جديدة متحررة إلى حد ما من أوزار الخرافة والسحر.

***

* كتب المبدع الراحل الأستاذ تركي الربيعو هذه الدراسة ل(الثقافية) ، ووافاه الأجل قبل أن يراها يرحمه الله.

سورية

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة