Culture Magazine Thursday  12/03/2009 G Issue 274
الملف
الخميس 15 ,ربيع الاول 1430   العدد  274
الألوان وتشكيل القصيدة البورترية
فريال الحوار

 

لكل شاعر منظور شعري، تنعكس من خلاله جماليات تجربته الشعرية، ومن أشعة المنظور الشعري عند د. غازي القصيبي: شعاع الألوان الذي يشكِّل صورته الفنية المنعكسة ذهنياً من واقعه المرئي، فحينما ترى عين الإنسان لوناً ما، فإنّ هذا اللون ينعكس في عقله ليكون دالاً يحمل إحساسه الذاتي، كما أنه يمكن للعقل أيضاً أن يُكوّن صوراً ليست نتاجاً للإدراك المادي المباشر للشيء.

إنّ القرن التاسع عشر قدم للخطاب الشعري أعظم محبي اللون، وهو ما يتضح في أعمال كيتس، والفريد تينسون، والشاعرة الإنجليزية: كريستينا روستي، وميريديث، وشيلي، وسوينبرث، ومالارميه، وفاليري.

ومنذ مطلع القرن الحالي، تنوّعت محاولات التوظيف، فقدم الشعراء عدداً من المحاولات التي تميّزت بالتلاعب بكيمياء اللون، والتحرر من استخدام عباراته، في إطار مضاعفة حجم قاموس الشاعر، وتجديد ذاكرة لغته.

إنّ اللون عند القصيبي يمثل وحدة جمالية دالة، خاصة أنّ الشاعر ينطلق من خلال رؤيته للألوان إلى تصور العالم من حوله: العربي، والعالمي، ولذا أصبح للألوان دور تكنيكي في بناء التجربة.

ومع حقل الألوان يتحوّل القصيبي إلى (غازي ) من عالم الكلمة إلى عالم الصورة، فهو ينتج ما يمكن أن نطلق عليه القصيدة المرئية، فاللون عندما يأتي في السياق الشعري، فإنه ينقل تصور المتلقي إلى الفن التشكيلي: إلى اللوحة الفنية الجميلة المتناسقة: إلى البورترية الذي تتحد من خلاله علاقات وعلامات الخطوط الفنية المرتبطة بدلالات الواقع المشاهد، لذلك يتعانق الإيقاع مع اللون في نسيج واحد لإنتاج هذه القصيدة المرئية.

- يطغى حضور اللون الأخضر على الكثير من قصائد القصيبي، فهو الموعد الوارف اليانع، يقول في قصيدته

- شقراء - من ديوانه (أشعار من جزيرة اللؤلؤ):

شقراء يا أحلى أغاني الصبا

ويا ابتسامات الجمال الثري

الشوق؟ ما الشوق سوى قبلةٌ

تهيم فوق الجدول الأشقر

والعمر؟ هل عمري سوى لحظة

على جناح الموعد الأخضرِ؟

واللون الأخضر هو العش الهادئ الذي تمنى أن يسكنه في خمائل وظلال، يقول في قصيدة - اذهبي - من ديوان (أنت الرياض):

اذهبي قبل أن نغيب سوياً

في الضباب المعطر الملعون

قبل أن أرتمي كطير غريب

وجد العش في اخضرار العيون

- وفي مقابل اللون الأخضر يرمز الأسود عند القصيبي للعذاب، ولأيدي الظلام والمعاناة التي لم يعد يملك القدرة على مقاومتها، يقول في قصيدته الأخطبوط:

أحس الأذرع السوداء

تشرب من شراييني

تمص الروح من جسدي!

فأين يدي؟ وأين أضعت سكيني

في القصيدة السابقة يتلاءم ويتسق اللون مع الإحساس مع الحركة لتمثيل وتجسيد العذاب، وفي هذا المسرح يسير البطل تحت سياط الأذرع السوداء التي تسومه سوء العذاب وأفقدته حتى مجرّد التفكير في الدفاع عن نفسه.

- اللون الأصفر عبّر بشكل واضح عن الصحراء في قصيدة - ظمأ - التي يقول فيها:

مشبوبة الجمر، صفراء الأسارير

تغفو وتصحو على هول الأساطير

لم تنشق الزهر إلا في الأساطير

إنّ توظيف اللون الأصفر في هذه القصيدة يدل على أبعاد درامية، كشفت عن العلاقة بين الفرد المبدع وبين الطبيعة، وبين الطبيعة والجماعة العربية، كما أنّ استنشاق الزهر في الأساطير استوعب الكثير من الخلق الفني الإبداعي عند القصيبي، وفك مغاليقه على الرغم من افتقادي للتصور الكلي لتجليات ألوان الزهر عند الشاعر.

- باللون الأحمر صبغ القصيبي كائنات كثيرة من شعره واستعار الورود للدلالة عليها. فالدموع عنده ورود، يقول في قصيدة (حبك):

أحمل في أضلع غربتي وردة من دموع

والقوافي عند الشاعر ورود:

ضحكت لي الشفاه، ضجت ورودٌ

من قوافي، فقلت: يا شعر كنْها

والجراح حمرٌ:

مرت عليّ الجراح الحمر ما دمعَتْ

عيني ولا ارتعشت روحي من الشجنِ

و ثغر الحبيبة ورد أحمر وجمر، يقول الشاعر في قصدة (الزلزال):

من أين جئت بهذا الثغر؟ أحسبه

قصيدة الورد في ديوان آذار

***

أخاف جمرته حيناً وأعشقها

حيناً، وتسكن وهي الجمر أفكاري

إنّ الشعر عند القصيبي هو جَمّاع الفنون، والألوان هي وسيلة معبرة من الوسائل التقنية التي تشكل نسيجاً فاعلاً لرسم خطوط الصورة، ودالاً مؤثراً يعكس ما يتضمنه الخطاب الشعري عنده من ظلال ذهنية كانت من وسائل الاتصال بين المبدع والمتلقي.

واللون في شعر القصيبي يقوم على النمط (الترابطي Associative ) 8 عند عالم النفس الإنجليزي إدوارد بلا، وهو النمط الترابطي القائم على إدراك اللون مصحوباً بفكرة، أو صورة لموضوع معين مر بالتجربة في الماضي، لأن اللون في شعر القصيبي، يحول الكلمة إلى صورة متعددة الدلالات، وفي استلهامه لصوره الشعرية يحتفي احتفاء خاص بحقل الألوان مما ساعد على استجلاء جماليات اللون في خطابه الشعري، ولعل انتماء شاعرنا لبيئة عربية ممتدة الأطراف في شبه الجزيرة العربية، جعله شديد الحساسية في التعامل مع الألوان ليغطي هذا الفضاء بما تستريح إليه نفسه وتتوق إليه أحلامه.

***

الإحالات:

1- مجلة فصول، م -ع2-1985.ص43

2- غازي القصيبي: الأعمال الكاملة، ط2،ص23

3- غازي القصيبي: أنت الرياض، ط1، ص37

4- السابق، ص34

5- السابق، ص 48

6- السابق، ص113

7- السابق، ص119

8- نقلاً عن:

Bullough,E:the pereceptive problem in the aesthetic Appreciotinion of simple color combination.1910,pp.4006.447


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة