Culture Magazine Thursday  12/03/2009 G Issue 274
فضاءات
الخميس 15 ,ربيع الاول 1430   العدد  274
في الملتقى الثالث للشعر في نادي جازان
اختطاف القصيدة والاحتفاء بال (لا شعر)
د. عبدالله بن سليم الرشيد

 

في عام 1418هـ أسعدني الحظ بالمشاركة في أمسية شعرية نظّمها النادي الأدبي بجازان بصحبة الأستاذ نايف الرشدان والأستاذ عبدالصمد الحكمي، وكان من أكبر المفاجآت التي ملأتني غبطة ذلك الجمهور العريض الذي ملأ قاعة النادي، واضطر بعضه إلى متابعة الأمسية واقفاً.

وظللتُ من بعد أسمع عن تقاطر جمهور الشعر في جازان إلى كل أمسية، وعن الطبيعة المختلفة لهذا الجمهور عن سائر جماهير الشعر في بلادنا؛ فهو متعطّش إلى الشعر متعلق به، شديد التذوّق له، بارع في متابعته ونقده على تباينه ما بين فريق محافظ شديد المحافظة على رسوم الشعر العربي، وفريق منفتح انفتاحاً متعقّلاً على تيارات الشعر ومذاهب الشعراء في التجديد، وفريق مسرف في الازدراء على الشعراء المحافظين، منقاد لكلّ ما يخالف جماليات الشعر المأثور، ولكل ما يهدم ويخرّب أكثر مما يخدم ويبني، وربما كان هذا الفريق المتطرف أقلّ الفرق حظوظاً وحظوة في جازان.

وحين دعاني نادي جازان - مشكوراً - للمشاركة في ملتقى الشعر الثالث الذي عُقد في الفترة من 29 - 2 حتى 1 - 3 - 1430هـ انتابتني نشوتي السابقة، وسيطرت عليّ تلك التجربة الثرية التي وجدتُ فيها متذوّقين بارعين، ونقاداً منصفين؛ فأظهرتُ الاستعداد والحماسة للحضور من أول يوم رغبة في ألا تضيع عليّ دقيقة واحدة من فعاليات هذا الملتقى.

وفي البداية أشير إلى أن رئيس مجلس إدارة نادي جازان الأدبي الأستاذ أحمد الحربي ونائبه الأستاذ محمد النعمي والدكتور خالد الشافعي والأستاذ حسن الصلهبي وآخرين من أعضاء مجلس إدارة النادي، بذلوا جهوداً كبيرة جداً، وكانوا جميعاً شُعلاً لا تنطفئ وهم يتابعون وينظّمون، وكادوا جميعاً لا يبرحون الفندق الذي أقيمت فيه الفعاليات؛ حرصاً منهم على إنجاح الملتقى والسهر على راحة الضيوف.

ولكن حين تابعت فعاليات الملتقى وجدت وجوهاً غير الوجوه، وجمهوراً قليلاً لا يكاد يُذكر لقلته! وفقدت ذلك الجمهور العريض، حتى أن مقدِّم إحدى الأمسيات علّق بأسى على غياب الجمهور، وطالب الحاضرين بالتفاعل مع (الشعر) الذي يسمعون.. ومتى كان الانفعال يُستدعى أو يُصنع؟!

في أمسيات (الشعر) التي شارك فيها عدد من المبدعين الذين طربت لشعرهم من قبل ومن بعد، واحتفيت بهم مع المحتفين، كانت المشكلة الكبرى؛ فقد أرغم منظِّمو الملتقى - أو غيرهم - ذلك الجمهور العريض على الغياب، وأرسلوا رسائل إليهم بأن (الشعر) الذي يريدونه غير موجود، وأنهم سيُدخلون في قائمة الشعراء مَن لا يملك أدوات الشعر، ولا يتقن أبجديات الإلقاء، ولا يعرف حتى المرفوع من المنصوب، ومن يفتقر إلى أبجديات الكتابة والإلقاء.

والشعر فنٌّ فضّاح كالرواية؛ فكلّ من تعلّق بهما وهو ليس من أهلهما افتُضِح، وعرف من يسمع الأول ويقرأ الثاني مقدار انتماء كلّ منهما إلى مجاله الذي يراد أن يوضع فيه.

لقد تسنّم منصة الإلقاء عددٌ ممن استمرؤوا ما يُسمّى (قصيدة النثر)، التي هي فنّ، وله مبدعوه، وعند كثير منهم تجليات بارعة، ولكنهم يسيئون إلى أنفسهم وإلى الشعر وإلى الجمهور الشعري حين يسمون الأشياء بغير أسمائها، وحين يُجبرون المشهد الأدبي على أن يقبل كلّ ما يدّعون، دون أن يراعوا الأذواق، متناسين أن دعواهم لم تجد آذاناً صاغية لا في المملكة ولا في غيرها، وأنّ إقحام ما ليس بشعر في الشعر كان محاولة بائسة يائسة، منذ أمين الريحاني وروفائيل بطي إلى آخر (متشاعر منثور) في يومنا هذا.

ومن المثير حقاً أن يصبح المتحمّسون لما يسمّى (قصيدة النثر) أكثر تطرفاً وإرهاباً لمن لا يقبل دعواهم، حتى صار من لا يقبل هذه الدعوى وينكرها أشبه بمن يقف في البرلمان الأوروبي لينكر (المحرقة اليهودية)؛ إذ تُوجّه إليه تهم أقلها (الراديكالية) والخوف من الجديد، والرجعية، والتحدث باسم (السلطة الثقافية) التي تميل إلى الركون والثبات. هذا غير الغمز واللمز والإساءة في الجلسات الخاصة (ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد).

والحقيقة أن من يتحمّسون لهذه الدعوى (قصيدة النثر) هم النكوصيون الرجعيون؛ لأن إرهاصات الشعر العربي هي أشبه بهذا الذي يزعمونه شعراً (أذكّر بكلمة حسان بن ثابت لولده عبدالرحمن: لقد قلت الشعر يا بني. وذلك حين سمعه يقول: لدغني طُوَيْئر كأنه ملتفٌّ في بُرْدَيْ حِبَرة)، فقد كانت بداية الشعر مجازاً يتسع به الناثر أو المتكلم العادي، حتى نضج في أنغام ثرية متعدّدة الوجوه والقوالب، وهي التي يعرفها العربي ويطرب لها ويهتز لإيقاعاتها، ولا يسمّى الشعر شعراً حتى تكتمل فيه أركان كثيرة، منها الموسيقى العالية، وهي التي لا يسيطر عليها ولا يتمكن فيها إلا أصحاب المواهب. سئل سعيد عقل عن (قصيدة النثر) فقال: (إن الموسيقى للقصيدة كالشرف للمرأة)، وهي كلمة أصفّق لها بحماسة؛ لأن الأخذ بها يمنع المتطفلين على الشعر من التعلّق به، ويعطي كلّ ذي إبداع حقه. وسُئِل عنها شاعر المدينة المبدع حسين العروي فقال: (إنها نكتة باردة)، ولو تمكّن العروي من حضور ملتقى جازان لمات ضحكاً من كثرة النكات الباردة فيه.

ولستُ الوحيد في الشعور بالمضاضة من ضحالة بعض ما قُدّم على منابر الملتقى، وإذا كان كلامي غير مقبول لأني صرتُ (رجعياً راديكالياً) في نظرهم، فهذا محمد العلي - وهو ضيف الملتقى - يصف أكثر ما سمعه بالضحالة وانعدام الرؤية وقلة الوعي اللغوي، وأن أكثر من كتبوا هذا الشكل مصابون بإسهال لغوي. ورأيه مهم في هذا السياق؛ فهو شاهد من أهلها.

إذاً.. اختُطِف الشعر الحقيقي في ملتقى الشعر، وضاق مجال الإبداع، وفسحت المنابر لأساتذة لا أظلم أكثرهم بسلب الإبداع منهم، ولكنهم جاؤوا في غير مكانهم، تماماً كما لو جاء من يلقي مقالة بين شعراء.

لقد كان الأحسن لهؤلاء الذين يكتبون (النثيرة) - وهذا هو المصطلح الأصلح لما يسمونه قصيدة النثر - أن يكون لهم ملتقى خاص بهم، ومن الأجدى لإبداعهم أن ينمو في حقل مستقل، وقد يُظلَم إن أضيف إلى الشعر، وليست صفة (شعر) تعويذة حتى يتعلقوا بها، بل ربما كانت (لعنة) على إبداعهم؛ لأن للشعر شروطاً وقيماً فنية لن تتنازل عنها الذائقة العربية مهما طال الزمن. ولعلّ من دلائل صدق هذا الحكم أن الجمهور تفاعل مع عدد من الشعراء الحقيقيين المبدعين في هذا الملتقى على قلّتهم.

وكان الأمر الأكثر إساءةً للملتقى وللمشاركين فيه وللنادي أن اغتنم بعض المشاركين الفرصة فأحرجوا النادي وضايقوا الحاضرين بإطلاق العنان لألسنتهم لتفيض بالسخرية بالذات الإلهية، وببعض المقدّسات، حتى أنه ابتدأ مشاركته قائلاً: (السلام على جازان وآله وصحبه وسلم)، ثم ذهب يعلّل إيراده للفظ الجلالة في سياق لا ينبئ بالتأدّب معه بقوله: هذا فهمكم البسيط وأنا لا أعني ما تفهمون!!!

إن هذا الإسفاف المنسوب إلى الإبداع زوراً ما هو إلا مظهر من مظاهر الإفلاس ومحاولة لفت النظر وإن بطريقة الأعرابية: (خالف تُذكر وإن...)، ولا يعدو أن يكون أساليب صبيانية للاستفزاز، ولكنها وجدت جمهوراً عاقلاً يعرف ما وراء الأكمات؛ فيعطي كلّ متكلم حقّه من الإصغاء والتعليق.

إن ذلك الذي وقف مستخفّاً بلفظ الجلالة وبجملة (الصلاة على النبي وآله وصحبه) لا يمكن أن يجرؤ - ولو ادّعى لنفسه كل صفات التحرّر وأن الإبداع ليس له قيد - أن يرضى بأن يُستخفَّ بأي لقب من ألقاب التكريم للملوك والرؤساء والأمراء، بل لا يرضى أن يستخفّ أحد باسمه هو أو لقب عائلته، ولو خاطبه أحدٌ بذلك لكان للمتحدِّث أن يعتذر بعذره: (هذا فهمك البسيط).

إن هذه الأساليب العبثية التي تنمو في بيئات مفسدة للإبداع الحقيقي هي من أكبر مغذّيات الإرهاب والتطرّف، وما حادث نادي الجوف عنا ببعيد، ويجب أن يُعامل مَن ينتهجها كما يُعامَل المفجِّرون والمفخّخون بأحزمة الموت والدمار؛ فكلا الفريقين إرهابي يجب استئصاله. وقد كنت أرجو أن يصدر عن نادي جازان بيان يتضمّن أن ما تلفّظ به بعضهم لا يمثّل النادي، وأن الذي يتحمل تبعته هو مَن قاله فقط.

لقد رأيت ما يثير الشفقة على مستقبل الشعر في المملكة بعامة وجازان بخاصة؛ ففي الوقت الذي يجد فيه الشعر الفصيح تلك الهجمة من أنصار الفكر العامي، تنطلق هجمة أخرى من (النكوصيين العبثيين) الذين قلبوا الشعر رأساً على عقب، وأدخلوا في الشعر ما ليس منه. واستمرأ هذا العبثَ طائفة من المشتغلين بالنقد؛ فأهملوا الإبداع الشعري والتفتوا إلى دعاوى (النثريين) في ظاهرة لا أفسّرها بغير ركوب الموجة والرغبة في الشهرة والتلميع الزائف، والسير مع التيار (والسمكة الميتة هي التي تسير مع التيار).

ومما يثير القلق أن تيار العبثية هذا قد يجرف شعراء مبدعين ذوي مواهب متفرّدة - شارك بعضهم في بعض الأمسيات - ونقاداً مبدعين أيضاً؛ لأن وميض الشهرة ولمعان الصور على الصحف شديد الإغراء.

لقد بذل المنظّمون - كما أسلفت - جهوداً مضنية، وأخلصوا في سبيل ظهور الملتقى على أكمل صورة، ولكنّهم - ربما - لم يحسنوا اختيار من يمثّل الشعر، أو ربما طأطؤوا رؤوسهم للعاصفة؛ ولذا وجدوا من ينقلب على جهدهم ليفسد الملتقَى، ويثير الشغب المفلس، ولعل ما وقع هو أبلغ تجربة يمكن أن يُفاد منها عندما ينظّم الملتقى الرابع؛ فليثقوا بقدرات المبدعين الحقيقيين من شعراء جازان، وليوسّعوا دائرة المستضافين، وهم كثر جداً، وليعطوا القوس باريها. وأرجو لهم مزيداً من النشاط في خدمة الأدب في تلك المنطقة العزيزة.

الرياض

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة