Culture Magazine Thursday  12/03/2009 G Issue 274
فضاءات
الخميس 15 ,ربيع الاول 1430   العدد  274
خليليَّ هيّا!
د. شهلا العجيلي

 

أرهقنا التاريخ بحركة نجومه، وبمحطّاته الشهيرة المتواترة، وباهتمامه بالمسند، وتغييبه المسند إليه، ولم تخرج القراءات الإبداعيّة للتاريخ عموماً عن الاهتمام بالمسند، ولم تقدّم حتّى الحداثيّة منها، سوى قراءة مختلفة لذلك المسند، من خلال طرح رؤية جديدة لحياة الملوك والأمراء والسفّاحين والشعراء... يمكن عدّ عمل الدكتور شاكر مصطفى، رحمه الله، استثناء، ومحاولة رائدة في تعريف المتلقّي بالشخصيّات الأخرى، الثالثة والرابعة.. وذلك في مجموعة الكتيّبات التي صدرت عن دار طلاس في سورية بين عامي 1996 و1997، بعناوين مثل: (المجهولون في التاريخ)، و(المغامرون في التاريخ)، و(اليتامى في التاريخ).

يحبّ كثير من الروائيين، والمشتغلين في النقد الروائيّ، أن ينسبوا ذيوع الرواية إلى كونها تسجّل التاريخ غير الرسميّ، وأنّها بحدّ ذاتها، وثيقة مضادّة للوثيقة الرسميّة المتداولة، فهي تهتمّ بحياة الأشخاص العاديين، وبالمهمّشين، الذين لم يلتفت إليهم التاريخ الرسميّ.

لم تستطع الدراما التخلّص من سطوة نجوم التاريخ، ولعلّ السؤال الذي ما يزال يحيّرني في الدراما التاريخيّة منذ وجدت إلى اليوم، هو عن دور ذلك الحارس الذي يقف بباب أمير المؤمنين! بل تحيّرني حياة الحارسين، اللّذين يقفان على ميمنة العرش وميسرته، ويسمعان الخطط والتدابير، والمؤامرات كلّها، كما يسمعان البوح بتباريح العشق، من غير أن يرفّ لهما جفن، ومن غير أن يتعبا من حمل الرمح طوال اليوم، إذ نراهما حاضرين كلّما جاء مشهد الخليفة، أو الملك، أو الوزير، سواء أكان ذلك في الليل، أم في النهار.

لم يهتمّ أحد بحياة أيّ من هذين الحارسين، ولم يحاول أحد أن يستنطقهما، فيهتك أسرار تاريخ الدول!

يقدّم لنا الشعر العربيّ، الذي يتّسم بغنائيّة عالية، الشاعر في حالات انفعالاته المختلفة، ويبقى الشاعر في كلّ حالة نجم القصيدة بلا منازع، حتّى لو كانت مديحاً لشخص ما، لكنّ المدوّنة الشعريّة العربيّة حملت إلينا الشخصيّة الأخرى المحيّرة، وأقصد المسند إليه، أو إليهم، وهم الخليل، أو الخليلان، أو الصحب... وكم تقتُ لأعرف أخبار أولئك الذين لا يمكننا الاستغناء عنهم على مدار حياتنا، من غير أن تثلج صدري قصيدة!

لطالما استنجد الشاعر بصاحبه أو خليله، وناداه مرّات ومرّات، وذكره أكثر من ذكره أخيه، لكن قليلاً ما عرّفنا الشاعر بشخص خليله أو صاحبه، ولعلّ الصاحب الأشهر في تاريخ الشعر، هو صاحب امرئ القيس، الذي بكى، فقال فيه:

بكى صاحبي لمّا رأى الدرب دونه

وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا

فقلت له: لا تبك عينك إنّما

نحاول ملكاً أو نموت فنُعذرا

يُقال إنّ هذا الصاحب هو الشاعر عمرو بن قميئة، أوّل من قال الشعر من نزار، وهو أقدم من امرىء القيس، الذي لقيه في آخر عمره، فأخرجه معه إلى قيصر، لّما توجه إليه، فمات معه في طريقه، وسمّته العرب عمراً الضائع، لموته في غربة، وفي غير أربٍ ولا مطلب.

عُرف امرؤ القيس بمناداة صحبه، فهو، كما اشتهر عنه، أوّل من وقف واستوقف، وبكى واستبكى، حين قال:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ

وقوفاً بها صحبي عليّ مطيّهم

يقولون لا تهلك أسى وتجمّل

ولا ندري إن كانت تلك العصبة، حقيقة، أم خيالاً، أم تقليداً شعريّاً، لكن لاشكّ في أنّ الطبيعة البشريّة تستدعي وجود الصاحب، والخليل، بل الخليلين أحياناً.

لطالما أوكلت إلى الخليل مهمّات صعبة، ولطالما تحمّل ذلك الخليل اللّوم، والعتاب، والشكوى، من غير أن نسمع صوته، إلاّ على لسان الشخصيّة الرئيسة، أيّ الشاعر. لقد ضيّعت علينا مركزيّة الشاعر العربيّ، معرفة دواخل نفس هذا الصاحب، فالشاعر مشغول بنفسه دائماً، وقلّما عرفناه خليلاً لآخر، ليحكي لنا عن نوازع هذا الخليل المرهون لرؤيته فقط.

لعل قيس صاحب ليلى، من أشهر من دعا الخليل، واستنجد بخليليه من عذاب الهوى، وعذاب الأهل في آن معاًّ، وذلك في قصيدته الشهيرة التي قالها بعد أن أخذه أهله إلى الحكماء، الذين كووه كيّاً، كي يخرج حبّ ليلى من روعه، يقول:

دعوني دعوني قد أطلتم عذابيا

وأنضجتمُ جلدي بِحَرِّ (المكاويا)

دعوني أمت همّاً وغمّاً وكربةً

أيا ويح قلبى من به مثل ما بيا!

معذبتي لولاك ما كنت هائماً

أبيت سخينَ العين حرّان باكيا

معذبتي أوردتني منهل الردى

وأخلفتِِ ظنّي واخترمتِ وصاليا

خليليّ هيا ساعداني على البكا

فقد جهدت نفسي وربِّ (المثانيا)

خليليّ إنّي قد أرقت ونمتما

لبرق يمانٍ، فاجلسا علّلانيا

خليليّ لو كنت الصحيح وكنتما

سقيمين، لم أفعل كفعلكما بيا

خليليّ مدّا لي فراشي وارفعا

وسادي، لعلّ النوم يذهب ما بيا

خليليّ قد حانت وفاتي فاطلبا

لي النعش والأكفان، واستغفرا ليا

وإن متّ من داء الصبابةِ أبلغا

شبيهةَ ضوء الشمس منّي سلاميا

لعلّ كلاًّ منّا كان، في مرحلة ما، بطلاً لقصّة حبّ، استدعى فيها خليلاً، أو صاحباً، يعينه في حمل الهوى، ويؤمّله بالوصال، ويشدّ على يده، فالخليل لا يعذل، بل يساعد على المضيّ في الغيّ، ويهدّئ الروع، وقد يكون صلة وصل بين المحبين، فيخترع (سيناريوهات) اللّقاء، والوصال، ويؤلّف الجمل التي يتفوّه بها العاشق شاكياً، أو معاتباً، أو شغوفاً، بل تمتدّ مهمّته إلى ما بعد الموت...

الأخلاء الأوائل لا يُعوّضون، إذ كلّما مرّت السنون نفقد مشروعيّة الشكوى، ونستصعب البوح، فإذا فقدنا أخلاّءنا الأوائل، علينا أن نعاني بصمت! لكن من حسن حظّنا أنّ الشاعر العربيّ لا يمانع في أن يعيرنا صحبه، ومن تعلاّتنا أنّنا نستطيع أن نستوقف أصحاب امرئ القيس، وأن نستنجد بخليلي قيس المجنون، وأن نستأنس بالشعر!

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7875» ثم أرسلها إلى الكود 82244

حلب

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة