Culture Magazine Thursday  12/03/2009 G Issue 274
فضاءات
الخميس 15 ,ربيع الاول 1430   العدد  274
شموخ الفلسفة وتهافت الفلاسفة(3)
دراسة حالة - أرسطو
د. راشد المبارك

 

2ج- الحركة:

قال في تعريف الزمان أنه (مقدار الحركة)، ولأن الزمان - كما يرى - أزلي فلا بد أن تكون الحركة بلا بداية، وقد تصور أن كل حركة لا تكون إلا بعمل محرك، وهناك علة أولى للحركة أي أن هناك مصدراً لحركة الكون بأكمله ولكن ليس هناك حدث أول أي أنها أزلية والقول بحدوثها يوجب السؤال عما منع من حدوثها قبل ذلك الحدث والمحدث موجود وأزلي وما هو الحدث الذي أوجب الحدوث، ولا يمكن القول إن المحدث لم يكن قادراً قبل الحدوث فقدر عند حدوثه، وفي تعليل الحركة واتجاهها تصور أن هناك رغبة للأجسام المتحركة في العودة إلى أصلها، وقال إن الأجسام التي هي من الأرض تعود إلى الأرض مثل الحجارة والثمار وكل ما يقذف فيسقط أو ما يتعرض للسقوط، على أن الأشياء التي من العوالم العلوية تتجه إلى أصلها في الأعلى مثل اللهب، كما أنه علل حركة تسارع الجسم (عجلته) كلما اقترب من الأرض بشدة شوقه إلى أصله كلما اقترب منه، وهذا يعني أن الحركة عنده ذات غاية فلذا لا تكون الحركة في الفراغ، إذ إن الفراغ لا جهة له أو فيه فلا يجد الجسم المتحرك ما يتجه إليه.

د - المادة:

يرى أرسطو أن أسئلة جوهرية وضرورية لا يمكن تجاهلها مثل ماذا يوجد وماهو الحقيقي وما الكائن؟.... هذه الأسئلة وأمثالها لا تمكن الإجابة عليها إلا إذا عرفنا ما هي (المادة) وأين موقعها من الأشياء الأخرى، وفي كتاب (ما وراء الطبيعة) قال إننا لا نستطيع الإجابة على ماذا يوجد بسرد بعض أنواع الموجودات، إذ لا حصر لها من ناحية ولأن الإشارة إلى بعضها يخرج ما سواها فالقول مثلاً أن ما يوجد هو الحيوان يخرج النبات والجماد وإن قيل هو النبات خرج النوعان الآخران، على أن الشيء الكوني الذي تشترك فيه جميع الموجودات هو (المادة)، ولكن ما هو تعريف (المادة) التي هي الحقيقة، في محاولته لتعريف (المادة) وضع مقياساً رأه يدل على ما هي (المادة) هذا المقياس هو أنها (موضوع) فقط وليست مسنداً إلى شيء آخر، بل لا يمكن أن تكون موضوعاً حيناً ومسنداً حيناً آخر، فقولنا أن الثلج أبيض نجد (البياض) هنا (مسند) أي أنه صفة و(الموضوع) هو الثلج، ولكن إذا قلنا (البياض) لون فالمسند هنا أي (المحمول) هو اللون و(البياض) هو الموضوع، وهذا يعني أن (البياض) صار محمولاً تارة وموضوعاً تارة أخرى فهو بهذا يخرج عن كونه (مادة)، وثاني حدود هذا المقياس هو الانفصال والتعيُّن، وهذا يعني أن (المادة) متعينة أي أنك لا تقول عنها هي كذا أو كذا أي هي مادة أو غير مادة، ومنفصلة بمعنى أنها لا تحتاج في تعريفها إلى سواها، ف(المادة) لديه هي أولى الحقائق لأنها ذات وجود مستقل فهي لديه الجوهر.

هـ - المكان:

قال عن (المكان) أنه كيان قائم بذاته مستقل عن الأشياء استقلال تام، وقد دلل على وجود المكان بأشياء تبدو مقنعة، ومنها حلول الأجسام فيه ومنها أنه لا يمكن تصور الحركة إلا في مكان، وقد ردّ على برمنيدس في قوله إذا كان المكان حاوياً فما الذي يحتويه بأنه لا ضرورة لوجود ما يحتوي (الحاوي) وغني عن القول أن ليس في هذا الردِّ من الإقناع ما يكفي، إذ ليس فيه وليس هناك ما يمنع هذا الاستشكال.

مما تقدم نرى أن ركائز قوله في الطبيعة هي ما يلي:

1- أزلية الكون.

2 أزلية الزمان.

3- أزلية الحركة والمادة.

4- أزلية المكان واستقلاله.

5- ثبات الأرض ودوران الأفلاك حولها.

6- وجود محرك لكل حركة.

2- ما وراء الطبيعة:

ما وراء الطبيعة هي الفلسفة الحقة عند أرسطو أي هي الحكمة لأنها دراسة ما هو كوني والوصول إلى معرفة العلة الأولى لأنها المعرفة الأساسية المفسرة لغيرها من العلل والتي يمكن أن يُعرف منها جوهر الوجود، وجوهر الوجود مشكلة أو لغز أساسي وليس شيئاً يمكن تجاهله أو تفادي البحث فيه لأنه أمر يفرض نفسه علينا، إنها المبادئ الأولى التي تُعرف بها ومنها الأشياء الأخرى ولا تُعرف هي من سواها، إذ هي مصدر معرفتنا لما سواها، وعنوان هذا المبحث وهو (ما وراء الطبيعة) ليس من وضع أرسطو نفسه، بل هو من عمل أندرو نيكس (ANDRONICUS) الذي جمع أثار أرسطو وصنفها في القرن الأول قبل الميلاد أو قريب منه، وقد اختار هذا الاسم لأن موضوعه جاء بعد أن فرغ الجامع مما كتب أرسطو عن الطبيعة وجاء هذا بعده فسماه ب (ما بعد الطبيعة) أو (ماوراء الطبيعة)، وما كتبه أرسطو في هذا الموضوع يقع في أربع عشرة مقالة أو بحث، ولم تكتب في وقت واحد ومن المرجح أنها لم تُعَدّ لكي تكون كتاباً يتعلق بموضوع، ولعل ذلك يفسر ما فيها من ضعف التماسك ومن التعارض في ما يذهب إليه من أراء أحياناً وما فيها من تناقض في بعض مواضع كما سيأتي في المناقشة.

في بحثه هذا اهتم بالسؤال المركزي وهو (ما هي الحقيقة) وفي هذا المجال تعرض لأراء الفلاسفة قبله مثل طاليس (THALES) الذي رأى أنها الماء كما تعرض لأنكسيمينز (ANEXEMENES) الذي رأى أنها الهواء ومثلهم أنكسيماندر (ANAXEMANDER) الذي رأى أنها شيء غير متعين، وقد رفض أرسطو كل هذه الآراء ووجدها أسماء لعناصر من المادة، كما رفض رأي أفلاطون الذي يرى أن الحقيقة تتكون من أفكار (IDIAS) أو صور (FORM) خالدة ومفارقة للزمان والمكان، أي أنها المدركات العقلية مثل (الحق) و(العدل) و(الخير) و(الجمال) وما إلى ذلك كما رفض رأي أفلاطون حول الصور وأنها مفارقة لأن هذه النظرة تجعل العالم (مادة) فقط، وللوصول إلى ما يراه الأصح في هذه المسألة سلك طريقاً وسطاً بين (الطبيعيين) و(المثاليين) مثل أفلاطون ولإيضاح ذلك وتأصيله ميَّزَ بين ما أسماه وجود ب(القوة) ووجود ب(الفعل) كما مر في بحث التغيّر، و(ما وراء الطبيعة) يدرس الموجود من حيث هو، والمعرفة الحقيقة لديه هي معرفة الأشياء بعللها، والعلل لديه أربع هي:

أ - العلة المادية.

ب - العلة الفاعلة.

ج - العلة الغائية.

د - العلة الصورية.

ولإيضاح ذلك نجد أن عقداً من الألماس تكون العلة المادية فيه هي عنصر الألماس (الكربون) و(العلة الفاعلة) هي الصانع أي صانع العقد و(العلة الغائية) هي التزيُّن، على أن (العلة الصورية) هي ما يظهر عليه العقد، وغاية (ما وراء الطبيعة) هو البحث عن العلة الأولى أو الجوهر الأول الذي هو علة العلل والذي هو غير متغير ومحرك غير متحرك، ومن الواضح تميزه عن العلل الأربع السابقة، وقد بحث فيما إذا كان من الممكن التدليل على وجوده عن طريق البرهان، فظهر له تعذر ذلك إذ من لوازم البرهان وجود العلل، والعلة الأولى - من التعريف - هي ما لا علة قبلها، فمن المرجح أنه رأى المخرج من ذلك التدليل على وجود العلة الأولى ومعرفة صفاتها لا يتأتى إلا من طريق غير مباشر وهو توجيه النظر إلى ما لا يحصى من الموجودات مثل النبات والحيوان والإنسان وما يظهر في كل من هذه الأشياء من دقة الصنع، ومن ناحية أخرى توجيه النظر إلى ما ليس بالعلة الأولى مثل الزمان والحركة والمكان من الأشياء التي ظن أنه أثبت أزليتها ليصل إلى إثبات وجود العلة الأولى، وقد سبق تدليله على أزلية (الزمان) وأزلية (الحركة) وأزلية (المادة) فأخذ مما تقدم أزلية ووجود العلة الأولى، ولأنه دلل على أن الزمان والحركة أزليان - كما سبق - وهما ليسا العلة الأولى فلا بد أن تكون العلة الأولى أزلية من باب الأولى، وقد اعتقد بأن الله كاملٌ وخيِّرٌ وجميل، كما قال بوجود محرك واحد للكون تصدر عنه الحركة ولكنه عاد في نفس المقالة فقال بتعدد الأفلاك وأن لكل فلك محركاً، ثم رجع عن رأيه هذا إلى القول بالتوحيد إذ لو وجد أكثر من محرك لما جاء الكون على ما هو عليه من انتظام، والله لا يحرك الأفلاك تحريكاً مادياً ولكن بإلهامها الرغبة في الحركة، كما يعتقد أن نشاط الله هو التفكير المطلق، ولأن الله أشرف الكائنات فلا بد أن يكون تفكيره في أشرف الموضوعات أي أن يكون تفكيره في ذاته فقط أي أن يعقِلَ ذاته.

.................................... يتبع

الرياض

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة