Culture Magazine Thursday  18/06/2009 G Issue 288
فضاءات
الخميس 25 ,جمادى الآخر 1430   العدد  288
مساقات
المُبْطِلُون.. والعقل الخرافي!
د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

 

كتبتُ في المساق الماضي مقالاً في (الثقافة الرِّعْدِيْدَة)، تطرقتُ فيه إلى ظواهر من العُصاب القهريّ الثقافيّ، الذي يشتعل لدى اختلاف الرأي بيننا في ضروب المعارف والثقافات والممارسات الاجتماعيّة.

وهذا النزوع لا يمكن تصحيحه بين عشيّةٍ وضحاها، ولا بترديد الشعارات؛ لأنه وليد تاريخٍ طويل من الشحن العاطفيّ، ونتاج تراكمٍ شخصيّ من تربيةٍ وتعليمٍ يؤزّان الإنسان أزًّا ليقف ممتشقًا حسامه الدونكيجوتيّ، شاكي السلاح يبارز طواحين الهواء بالهواء، مجابهًا عدوًّا مترصّدًا ما، حتى إذا لم يجد عدوًّا، عادَى نفسه، فأكل ذيله ثم رأسه:

كالصِّلِّ يأكلُ ذيلَهُ إنْ لم يَجِدْ ما يأكلُهْ!

تلك هي الصورة الهزليّة التي تُشكّل عليها نفوس الناشئة فينا، تربيةً وتعليمًا. وهي تُمنح من القِيَم الأخلاقيّة، والدينيّة، ومن النعوت الفيّاضة في نُبلها، ما يجعلها مَنْقَبَةً لمتقمّصها، منقصةً لخليعٍ تخلَّى عنها!

وبما أن حال بعض النفوس كتلك، فما على من يريد عدم خسرانها، أو استثارة حماقاتها، إلاّ أن يتوقّى نقدها، أو الاختلاف معها، أو إبداء رأيه في بعض شأنها، أو مسلّماتها. وعليه أن يتوخّى الكذب لها، وعليها، ويتعمّد منافقتها، فهي تتلمّض النفاق منذ الطفولة، وتستمرئه في الكِبَر؛ من حيث هو حليبها الأول الذي رضعته من أمّها، وربّيت عليه بدلالٍ من أسرتها ومجتمعها، لا على مرارة الحقّ، وحَسَكِ الحسّ النقديّ، وتواضع الشفافيّة والمكاشفة. أو - إنْ استطاع قلبك، وكان قد مَرَد على النفاق وإظهار ما لا يُبطن - فمن الأفضل إلغاء اختلافك عن تلك الجبلاّت أصلاً، وإلاّ فستجدها فجأة قد انتفضت مسعورة، كأوكاتافيا، في وجه الراهب هيبا - كما رأينا في المساق الماضي من خلال رواية (عزازيل) ليوسف زيدان - صامدة على هيئة صنمٍ صَلْد، فعصفتْ بها وبك ريحُها الوثنيّة العاتية.

وليس العِلم لدى عقليّة بدائيّة لا نقديّة كتلك خروجًا من ظلمات إلى نور، بل هو دخول من ظُلمات إلى ظُلمات بعضها فوق بعض، دونها ظُلمة الجهل والجاهلين؛ لأن العِلم إنما يُصبح في مثل تلك الحالة وسيلة لحجب النور، كي لا يهتك أستار ظلامٍ مُريح، وسكونٍ مخيّم، وسباتٍ سرمديّ مبارك. العِلم هاهنا سلاحُ تثبيتٍ لتوجّه ما، موروثٍ أو مكتسب، كان ينتمي إليه المتعلّم سَلَفًا، ومنذ نعومة مخالبه، وما تعلّم العِلم، ولا طَلَب المعرفة سوى ليتخذهما وسائل لتوطيد أطنابٍ قد لا يستطيع العوامّ توطيدها، أو الدفاع عنها، بأدواتهم البسيطة. ليس العِلم هاهنا لإحداث ثورة استنارةٍ على واقع متخلّف، ولا لنقدٍ ذاتيٍّ وجماعيٍّ لموروثات باطلة، أو لسعيٍ إلى تغيير نحو الأفضل.. والعياذ بالله.. (الله لا يغيّر علينا)! وفعلاً الله - كما قال - لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم، وقد حُق لأولئك أن يطمئنّوا إذن على ثوابتهم وخصوصيّاتهم. وأولئك هم المُبْطِلُون حقًّا، الذين يرثون الباطل، ويُجاهِدون في توريثه لأجيالهم المتعاقبة قَسْرًا.. وإنْ لم تكن للأجيال حجّةٌ في تبعيّتهم إيّاهم، وهم إنْ فَعَلوا هَلَكوا كمثلهم؛ لأن الله لم يخلق جيلاً مسلوب النُّهَى والإرادة، مستعبَدًا لأسلافه، كائنين من كانوا. ولذا قال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ، مِن ظُهُورِهِمْ، ذُرِّيَّتَهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا؛ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. أو تَقُولُواْ: إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ، وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ، أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ؟ وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.) (الأعراف: 172 - 174).

لذلك، كثيرًا ما يتساوَى العامّيّ فينا والمتعلّم، منطقًا وسلوكًا ومواقف. بل ستجد العامّي - في الغالب - أكثر عقلانيّة، وتسامحًا، وشهامة، وأمانة، وعدلاً، ووفاء؛ لأن فِطرته لم يلوّثها تعليمٌ فاسد، وأصله النبيل لم يعكّره شحنٌ معرفيّ، موتورًا، يتلوّى بقُرحة فكريّة، أو سياسيّة، أو مذهبيّة. أي أنه لم يدخل التجنيد الإجباريّ، الذي يُستقطب فيه المتعلّمون عادةً، في معسكرات ثقافيّة، ليس هدف التعليم فيها من المعرفة والإصلاح والتنوير والتطوير وتحكيم العِلْم والعقل في شيء، بل هدفه الجوهريّ التسلّح لمقارعة خصوم في طرفٍ آخر، والأغلب أنه طرف قريب، ومن أهل البيت نفسه.

بسبب هذا قلّما تجد المثقف العربيّ، أو العالِم العربيّ، ذلك الفرد الحُرّ، المستقلّ بفكره وشخصيّته عن الغوغاء من حوله، وإن بَدَت عليه سيما ذلك. وهو إنْ وُجد قُذف بالمروق عن الجماعة، وأُلصقت به كُلّ منقصةٍ، وأوّل قاذفيه أهله وعشيرته الأقربون. مع أن الفردانيّة في الفكر وفي العمل وفي المسؤوليّة مبدأ إسلاميّ: (مَنِ اهْتَدَى، فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ، فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى.) (الإسراء: 15). وفي مواجهة تلك الضغوط النفسيّة أو الاجتماعيّة، التي يواجهها الإنسان للانضواء ضمن القطيع العامّ، ما جعل الله لعاقلٍ من مندوحةٍ للاستجابة لما يُعدّ جهلاً، ولغوًا من لغو الجاهلين، وإن سَلَقوا مخالفيهم بألسنةٍ حداد، فخُشيت معرّتهم. كما لم يجعل له ذريعةً ليجهل عليهم فوق جهلهم، كما هو المبدأ الوثنيّ. ولذا، احتسب الله لأولئك العقلاء الشرفاء الأحرار الصابرين أجرهم مرتين، مرةً للصَّدْع بما يَرَوْن من الحقّ، وإنْ كَرِه الكارهون، ومرّةً للصبر على سفاهة السفهاء وجهالة الجاهلين. وقد صوّر القرآن الكريم ذلك المنهج بقوله تعالى: (أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا، وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. وإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقَالُوا لَنَا أعمالنَا وَلَكُمْ أعمالكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ، لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ. إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.) (القصص: 54 - 56). إلاّ أن تلكم هي طقوسنا الاجتماعيّة العاتية، وأشجارنا التربويّة والثقافيّة العريقة، التي - للأسف - لم تأخذ لا بمنهج السماء ولا بمنهج الأرض في التفكّر والتحرّر، وفي آداب الاختلاف وإدارته. وما كان لها أن تُنتج إلاّ تلك الذهنيّة المنغلقة المتخشّبة، التي لا تتبع، في أغلب شأنها، الحقّ، ولا العقل، ولا العدل، بل تتبع مرجعيّاتها كالنعاج، وإنْ قادتها إلى الهاوية. وعن مثل تلك العقليّة تحدّثت مقالةٌ للكاتبة فريال الحوار، في العدد 282 من هذه المجلّة، تحت عنوان (حُريّة الفِكر وشبح الزعيم)، حيث ساقت حكاية طاغور، المسمّاة (شبح الزعيم)، التي يصوّر فيها (الزعيم المقدّس على وشك الموت، فيطلب منه شعبه، الذي أصابه الخوف، أن يبقى بعد مماته كي يخبرهم بما يفعلون! ويوافق الزعيم، لكن أتباعه يجدون حياتهم حافلة بطقوس وقيود في سلوكهم اليوميّ، وغير قادرين على التنامي والتعايش والتواصل مع مجريات العالم الجديد، ليلجؤوا إلى زعيمهم المبجّل طالبين إنقاذهم، وعندها - فقط - يَذكر لهم أنه لا وجود له إلاّ في مخيّلتهم!)

وما تجليّات تلك التبعيّات في عالم التراث والأدب إلاّ صور من صور تشوّهاتنا الجمّة، التي تبدو حادّة الملامح كالحة السحنة في ذلك العالم؛ لأنه مرتعها الخصيب، ولأنه يكشفها أكثر من غيره؛ لتعلّقه بالقِيَم الإنسانيّة، والأخلاق الاجتماعيّة، والذوق الأدبيّ، والتاريخ، والفِكر، وهو كذلك ميدان الروح، والمنطق، والخيال، وعلى محكّه تظهر نتوءات التوحّش، والبدائيّة الحقيقيّة، التي لا تُخفيها مساحيق ادّعاء العِلم، ولا أزياء الثقافة المموّهة، ولا المصطلحات الرنّانة، ولا شكلانيّات الإبداع، ودعاوَى التحضّر.

وإزاء هذه الذهنية العربيّة المتخطّفة من كلّ اتجاه، يعنّ السؤال: أين دَور الإعلام العربيّ من تنوير العقول؟ أين الفضائيّات، الغارقة في نمطين من الإثارة: دغدغة الغرائز البهيميّة، وإثارة النعرات الاجتماعيّة والسياسيّة؟.. ففي حلقةٍ من برنامج تلفازيّ - ذي عنوان عامّي هو: (العيشة واللي عايشنها) - على قناة (المِحْوَر) المصريّة، ينقل البرنامج مشاهد مزرية من ذلك الحضيض الذي وصلتْ إليه العقليّة العربيّة الشعبيّة، في مستنقعات ما يُسمّى: الطُّرُق، والدروشة، وتقديس البشر، وطَوْطَمَة الأولياء، والتمسّح بالأضرحة. ممّا جعلني أتساءل: لِمَ، إلى الساعة، لم تقم قناةٌ عربيّة واحدة لمحاربة مظاهر الشِّرك بالله، والكفر بالعقل، واستغفال عباد الله، وتضليل الناس، وتنشيط الجينات الخرافيّة العربيّة، وابتزاز الشعب المغلوب على أمره من أقصاه إلى أقصاه، ذهنيًّا ونفسيًّا واقتصاديًّا، وفي وضح النهار.. ومؤسسات المجتمع التعليميّة والإعلاميّة واقفة تتفرّج، كأن الأمر لا يعنيها؟ لماذا لم تتصدّ ولو قناة واحدة، وبشكلٍ احترافي لا تقليديّ، لتعرية هذه البغيّ الخرافيّة الولود، التي لا تتلاعب بالدِّين فحسب، بل تحتقر قبل الدِّين العقل، الذي كرم الله به بني آدم، فإذا هي تجعل الإنسان في منزلة أحطّ من الحيوان، إذ يعبد أخاه الإنسان، ويقدّس آثاره، ولو كان رِمّة منذ آلاف السنين؟ كيف ترجو هذه الأمة خيرًا أو مستقبلاً، وعقول السواد الأعظم من شعبها مأفونة هكذا، متآمرة عليها شياطين الإنس والجن؟ ولم يَعُد التنوير، ولا الدعوة اليوم، قائمَين على خُطبة عتيقة، ولا على فتوى محفوظة مكرورة منذ عشرات السنين، لكنها تقنيةٌ، وأخذ بوسائل الاتصالات والمعلومات الحديثة، ومواكبة للعصر، وخطاب حضاريّ جادّ لإنقاذ جيلٍ صاعد من هذا الطوفان. أمّا الجيل العتيق، فأمره إلى الله، وقد لا يُجدي معه الإصلاح كثيرًا.. وهل يُصلح الإعلام ما أفسد الدهر؟!

* * *

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

الرياض aalfaify@yahoo.com http: - alfaify.cjb.net

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة