Culture Magazine Thursday  18/06/2009 G Issue 288
فضاءات
الخميس 25 ,جمادى الآخر 1430   العدد  288
النية في الثقافة- 1 -
(كيف نحرر اللحظة الإبداعية)
لمياء السويلم

 

المقدمة

عالقة لا تزال محاولاتنا في فهم الثقافة بالسعي على تعريفها إما بالبحث عن تاريخية مصطلحها أو وصفيتها، عن الإنسان في بعدها السيكولوجي والمجتمع في البعد التكويني، ومن هذا سأتساءل: هل يبقى الأهم من كل جهد هو النية فيه؟ إذا سلمنا بذلك، فالسؤال سيذهب إلى ما تكون مقاصدنا الثقافية، وإذا لم نسلم فجهدنا بلا هدف؛ لأن مقصد الثقافة يقابل هدف العلم، وربما يعادله وجوديا ويرادفه في المعنى، وهذا المبحث لا يقصد محاولة جديدة في التعريف تخرج عن أبعاد محددة، إنما هو محاولة بحث لإجتراح إمكان جديد لفهم المقصد في الثقافة لا تعريفها, وهي محاولة تقوم على ثلاثة أوراق: أولاها خلق مقارنة بين شروط الإنتاج العلمي والعمل الثقافي والمقارنة لا تعمل على رصد الفروق لأنه مسلم به مسبق وإن لم يصح افتراض العلم على المنطق والثقافة على الخلق، ثانيها: محاولة تصوير الفعل الثقافي على حالتين، وهما ما قبل الوعي بالثقافة كطبيعة مرحلة يعيشها المثقف وما بعد الوعي بها وعن سلطتها على النية الإبداعية، ثالثها: ستكون بين الهم الثقافي وحقيقة المثقف من خلال جرد الالتزام عن المهمة في شخص المثقف كفاعل ثقافي واعي، وقبل البدء، فإن المبحث لا يحمل أي نتيجة لكنه سيتحملها إن تبدت عن قراءته، وسيحمل من الذي لم يقله أكثر من الذي قاله، سيتناول المثقف دون أي محاولة للتعريف بمن هو، ويتناول الثقافة بمحاولة حثيثة لعدم الانتصار لأي بعد فيها، ولن يغيب أنه مبحث يأخذ النفس كأهم ما يأخذ عند البحث في المقصد، وليست النية مرادفة حاضرة دون وعي بتاريخها فهي تحضر من حيث هي رأس النار في موروثنا، إنه مبحث يقصد البحث قبل أن يختار المقصد عنوانا وهدفا رئيسا، ومع هذا، لن تخلص الورقة من فواصل خارجة عن القصد البحثي لا يصلها الوعي، والدعاء الذي أبدأ به هو أن يجترح اللاوعي مزيدا من الإمكان، وأن يحمل هذا الاجتراح من الخلق والمنطق ما يعينني ويعين القارئ على فهم الثقافة كمقصد وجودي بدلالتين، أولاها ما يفك شرط القطع عن معرفة الله تعالى، وثانيها مايفك شرط الغيب عن سر الكون، وهما شرطان أساسيان في ثقافتنا الدينية، إنه مبحث يسعى أن لا يتأسس في التنظير الثقافي، وأن لا يحسب عليه لأنه لا يكتمل فيه الشرط النظري وإن عمل به، وأن أتحدث عن المبحث كفاعل مستقل ليس لأنه كذلك، بل لأنه يملك أن يأخذني سياقه إلى حيث أراد أو إلى حيث لم أرد، لكل منا في هذا العمل إرادة لتطويع الآخر؛ أنا لهدف أعيه ولا أملك أن أعي كل مسعاي عليه وهو (المبحث) إلى ما يأخذه سياقه الذي لي به قدر ماله بمسعاي، وللقارئ هنا إرادته أيضا، النية في الثقافة عنوان رئيس لمحاولة ربما لا تكون أولى إلا باسمها، محاولة اجتراح إمكان قد لا يكون جديدا أيضا يبحث المقصد كلحظة خالصة مما يمكن أن يلبس بها أو تلبسه مما يدخل عليها قبل أن توجد وبعد أن تتحقق، ولقد حاولت أيضا أن أحدد ماهية هذا المبحث مما يحمل أو لا يحمل ولم أقطع بقط أو فقط لأن ليس من المنطق أن نقطع بحدود أي عمل قبل أن يكون ليس من الإبداع التسليم بالحدود, إن البحث في المقصد بما هو سابق للفعل ليس بحثا (في) المنطلق بل بحثا (عنه)، لأن البحث (في) المنطلق هو افتراض أول يقوم على كون العمل الثقافي ينطلق منه، و(منه) بما يعني أنه افتراض قد عرف المنطلق وحدده ويهدف إلى سبر ما فيه بالاشتغال على فهمه، بينما هذا المبحث يقوم على البحث(عن) المنطلق أي أنه يراجع في مسلمة الافتراض الأول بأن المنطلق محدد ومعروف بافتراض عدم معرفته به, وبالمثال حين نأخذ الدين كمنطلق؛ فنحن نفترض هنا مسلما دون بحث أننا نعرف الدين منطلقا لكننا نبحث فيه الموضوع محاولين فهمه، وإن كان التسليم بالدين كمنطلق افتراض يحمل من حقيقته فثمة افتراضات أخرى لا يفهم التسليم بها دون بحث، يقابلها تجاهل افتراضات لا تطرح حتى بالقراءات التي تعد باسم الدراسات عن اللاوعي، ولعلني أتناول في الورقة الثالثة بعضا من طبيعة الافتراض كعمليات معرفية تحكم المقصد الثقافي سواء عند صاحب العمل أو عند الناقد الذي يبحث في عمل المثقف، وذلك في ورقة جرد الالتزام عن المهام، أخيرا النية في الثقافة عنوان لا يتجه للمثقف كحالة عامة، بل كحالة خاصة تفترض بنفسها نية الثقافة.

- 1- بين شروط الإنتاج العلمي والعمل الثقافي

نتفق قبل البدء أن الشروط على مستويين أحدهما واع ومحدد واتفق عليه، والآخر غير واعٍ ولا محدد لكنه أيضا قد يتفق عليه، والبحث عن واحد في مجالين يعني العمل على رصد فروق أو قبض تشابه، لكن المقارنة هنا ليست بين الشروط من حيث هي خصائص أو نوع، بل بين المعرفية التي تعمل بهذه الشروط من حيث إدراكها لها، ومن ثم الإنتاج تحت سلطتها، وهي سلطة لأنها تبقى على تنوع منتوجها محكومة (بها) أو (لها) وهذا هو الفرق الذي تفترضه المقارنة بين شروط العلم والثقافة، فالإنتاج العلمي بمختلف مجالاته يبقى محكوما

-ب - العلم ؛ فثمة قواعد سيبنى عليها وثمة مناهج تقطع فيما بينها وهنالك تجارب تنقض وتثبت وهنالك دائما نتيجة وأحكام وصوابا وخطأ، هنالك نفع مسبق البحث عنه ونتائج مشروطة بالصلاحية، فماذا في الثقافة يحكم إنتاجها؟ الافتراض الذي تطرحه المقارنة هو أن العمل الثقافي محكوم

-ل - الثقافة، لا (بها)، فهو يصنف عليها ويأخذ منها هويته دون أن تحكم الشروط الثقافية عمله إلا بمقدار خضوعه لها، ففي العلم تكمن الإرادة بالتزام شروطه بينما في الثقافة ستكون الإرادة بفك شروطها، وهنا الفرق بين المقصد الثقافي والهدف العلمي كمقابلة مفترضة بين الاثنين، فقدر ما تلتزم الشروط العلمية قدر ما يتحقق الهدف في التفوق، وقدر ما تلتزم الشروط الثقافية قدر ما يعوقك المقصد، لأن المقصد الثقافي إرادة تفرد عن نتيجة متوقعة بينما الهدف العلمي إرادة طالب لنتيجة يتوقعها، فهل يعني هذا أن الثقافة لا تبحث عن نتيجة؟ أو أن النتيجة فيها هي الثقافة ذاتها؟ فكما هي النتيجة العلمية قابلة للخطأ لأن البحث يكمن في الشيء المراد بحثه، أي أن وجوده حاصل بطبيعة الحال، فإن النتيجة الثقافية لا تقبل الخطأ؛ لأن وجودها غير حاصل إلا بعد البحث لا سابق عليه، إن الانتظام للشرطية العلمية هو من أساسيات نجاحها، بينما النظام المعرفي للمثقف من خلال إدراكه الأولي للشروط الثقافية سيجعل منه خضوع مبرر للشروط دون وعي, هذا ولن يكون الفهم والبحث في الشروط كعمليات تالية للإدراك حصن مُؤمن من حالة الخضوع، إن المقصد الثقافي (الإبداع) هو لحظة الإرادة الأولى التي يبادر فيها المثقف عمله ليقف على لحظته الفعل، من اختارها ولماذا، من يحكمها وبماذا, وإلى ماذا؟ سؤال آخر تطرحه اللحظة الإبداعية لا بحثا عن النتيجة، بل عن تحقيق الإبداع لأنه لن يقصد نتيجة حددها بل سيخرج عن النتائج المحددة، فهل يقوم الفاعل الثقافي بعمليته هذه؟ ربما، لكن التفكير تحت سقف الشروط الثقافية خلال اللحظة سيُفقد مقصده الثقافي حريته الإبداعية، إن الشروط ليس لها أن تكون غير قراءة مفترضة لاحتياجات مرحلة الفاعل الذي يبحث عن لحظة حرة في سياقها ليبدع، إن الأعمال الإبداعية في علاقتها مع الشروط الثقافية لها أن تكون محكومة للشرط لا به أي أن معرفية الفاعل عليها أن تقرأ الشروط في الإنتاج الإبداعي لا أن تُقرها في اللحظة الفعل، فالإبداع محكوم للثقافة لا بها لأن المحكوم بالشرطية هو محكوم بمصيره مجبر بينما المحكوم لها(للشرطية) هو مجير المصير، والفرق أن تجير المصير يعني حرية الإرادة والرغبة والفعل وإن جيرت النتيجة، بينما الجبرية ستلحق النتيجة وفاعلها وفعله وهذا ما يحدث فتأخذ بعض الأعمال الثقافية نتيجة أداء المهمة دون هم الالتزام، ويأخذ المثقف شكل الموظف لا الملتزم، وهو افتراض سأتوسع به بحثا في الورقة الأخيرة، وقبل ذلك يمكن اعتبار هم المثقف هو الخروج عن النتائج المحددة بفك الشروط وتحرير طريقه نحو النية الأولى لفعله (الإبداع)، هذا لأن العمل الثقافي محكوم للثقافة لا بها، أي أن نتاجه سيرجع لها لا أن ينطلق بفعله منها، على غير الإنتاج العلمي الذي ينطلق بمواد علمية أي أنه ينطلق منه، وكمثال عن عملية المقصد الثقافي هذه ما قاله محمود درويش عن كتابة الشعر(أنني مسكون بهاجس هو عدو كتابتي حتى الآن ما أريد أن أكتبه. تسألني: ما الذي تودّ أن تكتبه؟ فأقول لك: لا أعرف,إن رحلتي هي إلى المجهول الشعري بحثاً عن قصيدة ذات قدرة على أن تخترق زمنها التاريخي وتحقق شرط حياتها في زمن آخر. هذا ما أسعى إليه، ولكن كيف أعرّف بهذه المسألة؟ هنا أيضا لا جواب نظرياً ولا فكرياً. الجواب هو جواب إبداعي كل الأسئلة حول الشعر لا تقنعنا إلا إذا تحققت شعرياً أو في الكتابة الشعرية) إنه يبحث عن اختراق التاريخ كشرطية، ونيته خالصة في المجهول الإبداعي، لأن العمل الثقافي كإبداع وجود لا يتحقق بمقاصد محكومة ومجبرة.

كاتبة وباحثة سعودية - الرياض Lamia.sulm@gmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة