Culture Magazine Thursday  18/06/2009 G Issue 288
مراجعات
الخميس 25 ,جمادى الآخر 1430   العدد  288
استراحة داخل صومعة الفكر
البحر والمرأة العاصفة
عبد الله بن صالح الوشمي
95 صفحة من القطع المتوسط
سعد البواردي

 

العلاقة بين غضب البحر وعاطفة المرأة العاصفة علاقة تمرد على الضعف والاستكانة..

البحر بأمواجه لا يرحم من لا يعرف الغوص والمرأة بعاطفتها المشبوبة لا ترحم من يستعدي حبها.. بل ذلك يستجدي حبها ضعفا واستكانة.. شاعرنا الوشمي في ديوان (البحر والمرأة العاصفة) جمع بين غضبتين كلتاهما في ثقافة الحياة صراع أزلي بين الأقوى والأضعف.. وليت أنه أضاف إليهما المثلث الثالث.. الرجل بعنفه ونظرته القاصرة الرعناء تجاه ضعف المرأة.. ودموعها..

بعيداً عن هذه المهاجمة اختار أن يريحنا تحت أفياء الوطن وظلاله الوارفة دون تأزم.

وطني عندما بدأوا يعزفون أوتارهم

كنت وحدي أغني على مفرقك

ووحدي أنا كنت من ذبح الغول حين بدا رابضاً

فوق سور المدينة

كان خائفاً وجلاً على وطنه من غائلة الغول.. وهذا جيد.. والسؤال الذي يطرح نفسه: أي أوتار يعزفها الآخرون أنستهم مخاطر الغول الرابض فوق أسوار المدينة؟! هل إنهم سادرون في غيهم لا يعون ولا يرعوون؟!

شاعرنا الوشمي نقش وشماً على ذراع شعره كشف لنا عن أدوات حيطته.. أنه قارئ رمل وشعر سيغمر غده بالمجد والطمأنينة.

هكذا قال لوطنه:

أنا من هنا: إنني السندباد الذي جاءك

اليوم أحرقه.. الشعر والشوق

لماذا الإحراق؟! لأن قراصنة البحر من خلفه يقتسمون بقايا الشموخ المبعثرة على قاربه الموشك على الغرق لولا أن وطنه الساحل والمرسى والأمان:

فعيناي فيك. وفي القلب أنت فقل لي

متى يطمئن إلى عشقه رجل جاهلي؟!

ظلامية العقل يا صديقي أبشع ضروب الجهل.. ومع المعرفة تعود الحروف التي هاجرت وحدها إلى عنوانها والطيور التي هاجرت وحدها إلى مكانها.. لا غربة لا انتماء.. الغربة أن يفتقد الوطن روح أبنائه..

سندباد شاعرنا الوشمي آب ولم يعد.. لعل له عذراً وهو يلومه.. ولكن أي عذر لهذا الغياب يمكن قبوله؟!

سندباده عاشق أمل مجهول.. والآمال لا يمكن جهلها.. ربما أراد أن يقول أحلى مفقوداً أو غائباً.. إنه في صورة طائر رحل إلى أرض بعيدة:

مالي أناديك يا طير ولا خبر

فهل رحلت لدينا دون عنوان؟

هنا يصعب البحث ما دام العنوان غائباً..

أحلامنا يبست لا جذع يمطرها

إذا هززناه يوماً دون خسران

الجذع يا صديقي لا يمطر.. دائماً الغيث.. أو الماء.. أو الري أيها تختار..

الوهم آه من الوهم وصنوفه.. إنه المحور الذي يدور حوله شعر الشعراء دون علم..

أبيت خلف جدار الوهم منتظراً

قدوم رحلتنا يا أيها العاني

شمر عن سواعدك.. وأعد نظراً يستبن لك الدرب.. وخذ من مشورة لامرئ القيس نبراساً تحتذي به

أعد نظراً يا عبد قيس لعلما

أضاءت لك النار الحمار المقيد

شاعرنا هذه المرة انطوائي يهوى العزلة و:

يجلس في زاوية المقهى

محتضناً أوراق الشعر.. ولا يدعو أحدا

كي يبحر في بحر الشعر

يكتب عن قيس.. يكتب عن ليلى

يبتاع الصحف الكسلى كي يكتب فوق حروف اللغة الصفراء

لا يترك مخلوقاً إلا واساه وآنسه

كي يدخل معه في بيت الشعر

لا يترك مظلوماً إلا أعطاه الفجر.. يبحث عن قافية

لماذا لا يأتي بحثه عن عافية ترد عنه مرارة الظلم.. القافية وحدها لا تشبع ولا تمنح الفجر.. وإنما تغازله بالكلمات ليس إلا..

البحر له هواية.. لقد فر من البر القاسي في اتجاه البحر المواسي:

ألا قد آذانا البر

البحر هناك عميق يغرينا

فلنقرأ قاموس البحر

هيا أبحر.. أنا خلفك لن نرجع مهما طال العمر

من هو هذا المخاطب.. الربان.. القائد للمركب؟

هيا يا كاهن هذا الليل متى تبدأ في الرحلة نحو الفجر

كي تصبح بلدي بستاناً

ونصلي لله ونسكن في زاوية البدر

إنه يفر منها إليها.. يدور في فلكها بأمل مجنح أن يتحول بَره.. وبِره إلى أغنية حب وخصب ونمو..

مقطوعة شعرية وصفية لسماء أسعدتني:

تخرج من خبائها سعاد كالقمر

راحلة في مفرق الخلود والبقاء

تخرج كالغمامة البيضاء

تنثر فوق دربها النجوم والدرر

وخلفها الغزلان والعيون والشجر

الصورة بانورامية مطلقة الأحداث هذا ما ينقصها.. وكي لا يغضب البر من رحيله قافلاً نحو البحر أعاد النظر من جديد.. تذكر أنه صحراوي لا ينسلج عن جلده.. ولا يخرج من عباءته:

أنا هنا سيدة الصحراء

النوق والشعر وهذا الماء

جميعها جميعها تخرج من عباءتي السوداء

ووحده الليل ينام فوق دفتري

عاشقة.. وعاشق ولهان

والنار.. ما زال رماد النار في اتقائه

يضيئه الليل وفي هجوده أمنحه الأمان

ملاحظة: رماد النار لا يقدر على الاتقاء لأنه رماد لا روح فيه.. حسنا لو أبدل الرماد بالجمر المتقد

لأن الشمس تلسع.. ولأن الريح تلفع.. ولأن الطبيعة تركت بصماتها السوداء على شكله.. لم يتبرم.. ولم يتظلم.. بل وجد في سواه همزة وصل محببة إلى قلبه تشده إلى الليل يسامره أياً كانت نظرة الآخرين إليه قاسية ومعيبة.

لوني أنا: لوني هو السواد

كالليل لوني دائماً هو السواد

والآن لوني أسود كي أبدأ الحداد

على ماذا البكاء والحداد يا صديقي.. الناس يقاسون بأعمالهم وليس بألوانهم المسك أسود.. والعنبر أسود لا يضيرها سوادهما.. إن أكرمكم عند الله أتقاكم.. اخلع ثياب الحداد فأنت حر ما ملكت ناصية الحرية..

الرحلة في أطياف شعر شاعرنا المتألق لا تتغير ولا تتبدل.. إنها تراجعه وتسترجعه.. ويراجعها ويسترجعها بين محطة وأخرى في وله وشوق لمشاقها العذبة والمعذبة أيضا:

تسافرين مثلما يمامة تبدأ بالرحيل

تسافرين دائماً.. وواقف أنا

يجرفني الهديل..

مهاجر.. أوله يا سيدتي

وفارسها يحرق الصهيل

لماذا يا صديقي يأخذك الهديل إليها؟ والصهيل إلى مرابضها؟ أنت المهاجر فكيف تهجر السفر.. لغز محير:

ما زال دمعي نازفاً

وشاعري ينتظر الوصول

هل تعريفين من أنا؟

يا أنت يا سيدة النخيل؟

يعرفها بنفسه.. مسافر دون سفر أو معذب قتيل..

الله كم يعرفني الرحيل..

يبدو أنه أجهد.. وأقعد لكثرة ترحاله.. اكتفى من الغنيمة بالإياب ومن شاعره بالوصول لا بالسفر إليه له العذر..

هذا رحيل قاتل

من أين يا سيدتي تبتدئ الخيول؟

تبتدئ الخيول من بوابة سباقها يا عزيزي ولكن ماذا بيد فارس يصمت كي يقول دون أن يمتطي صهوة جواده..

ومع هجرة شاعرنا وهجره تمتد بنا الرحلة.. وتشتد بنا لهفة النظر إلى الآتي:

مهاجرا يخرج من بلاطها

يرمي على تخومها النجوم

يوغل في قراءة الحروف والرسوم

يوغل في الهموم

يذكر في بلاده

سؤالها وليلها الطويل

في بلاده المهملة هل كان يعني؟ أم في بلادة منقوطة مغلفة بالحيرة.. لا أدري

مستعذباً.. يولد في فراشها

لكنه يسكن في الغيوم

حذار أن يسقط.. فالغيوم تتحرك.. لا تعترف بسكنها كفراش.. وإنما بهبة إنعاش ممطرة لأرض عطشى..

(قيس) قال ما عنده.. وشاعرنا الوشمي قال ما لم يقله قيس.. لعله كان بمقولته يعني نفسه:

أرسم من حبي لها كوكبا

يفرقني في صمته الكوكب

أحمل موج البحر في معطفي

وأحمل الشمس ولا أتعب

قيس لا يقدر على هذا القول حتى ولو كان مجنونا في حبه لليلاه، ذلك أن معطفه لا يقوى على حمل موج البحر.. وكاهله المتعب لا يستطيع حمل الشمس.. ألا ترى يا صديقي أن في هذا مبالغة لا يقوى الخيال على تصديقها؟!

ليس موج البحر هو المشكلة.. ولا حمل الشمس هو المعضلة.. بل أشياء أخر.. إنه يستوطن الصيف بنيراته وسط صدره وشهرزاده مرحة تتفرج.

ومع هذا الظهور الخارق بالقوة والفتوة يتراجع أمام جبروتها.

لا تسأليني الصبر يا غادتي

لست أنا الصخر. ولا أطلب

حبي أنا ليس له شاطئ

ومركبي في بحره متعب

هذا أن العاشق في حبه

لا خيمة تجهلني أو أب

ويخاطبها مستذكراً مستنكراً دعابتها:

ودلت في شطك ماذا جرى

للشاطئ المورود إن أشرب

دجلة. والنيل. فلا تغضبي

تمنح من يعشق ما يطلب..

ولكنهما أيضاً يبتلعان.. بقدر ما يمتعان..

ما زلت في حبي لها حائراً

أخط في الرمل وأستغرب

ولأن حبه لها مسكون بالطمع والجشع شبه نفسه بأشعب، أو هكذا يفترض..

لو كنت في حبي لها أشعبا

لقلت إني أشعب أشعب

ولكنه ليس كذلك فقد أعطاها ما لا يقدر عليه.. رسم لها الكوكب وحمل من أجلها موج البحر في معطفه.. وحمل الشمس بوهجها دون خشية الاحتراق هل بعد هذا حب؟!!

هل أن الشاعر ساحر؟ ربما بقدرتهما على تصديق ما لا يصدق.. فالشعراء يتبعهم الغاوون.. والسحرة يتبعهم المغفلون.. كلاهما في الهوا سواء.

كساحر.. أنا هنا مع الحروف

أخرج من رمادها الألوف

لو.. لو مات يوماً شاعر

لانفجرت ذاكرة الحروف

تبكي عنه. لا أدري. أم تبكي منه.. العبرة بنوع الانفجار.. ومصداقية الأشعار.. عليهما يتحدد نوع البكاء.. ومذاق الفقد.. الحب في لغة شاعرنا وفي خطابه له فاتحة.. وله مساحة. وله نهاية.. حديثه محدد بالفاتحة.. ما هي؟ وما هي مفرداتها؟

قم واقرأ فاتحة الحب على هذا الكون المتعب

لا ركن شديد يؤويك ولا بلد

تملؤه أشواق الغربة كي يطرب

بالأمس اكتملت أسفارك فاقرأها

ورأيت الخضر يصلي كلمات الله

فلا قمر قد هاجر بستانك أو كوكب

في أعمق الأعماق توغل شاعرنا في حكاية الكون حيث الخضر. والصلوات. واكتمال السفر والصور الضاربة في أبعاد الماضي وصراعاته وما خلفته من شجون وشؤون ما برحت حية في ذاكرته يستذكرها ربطها بحاضره.

لا. لا تذرف دمعك

مفتاح الكعبة ما زال بأيدي شيبه

قد صدق الله. فجاهد نفسك

كي تدخل في بيت الله..

أني أبصر في عينيك سؤالا

وأرى تحت لسانك تنتحر الآه

هيا تمتم.. الله.. الله..

خيال شاعري رحب استغرق الماضي الكوني في بعض جوانبه.. وطرحه شعراً للذكرى.. وللتذكير معا..

هنا وفي مقطوعته القصيرة والأخيرة يطرح أمنيته أن لا نحرق الدرب.. وإنما نحرث التّرب كي تجود الأرض بما خصبت..

لا تحرق الدرب الذي

يوماً سيحملنا إلى الفجر

في كل قافية هنا

نار.. وبين عيونها نهري

قد تطلع الأشجار شامخة

وعروقها تحبو على قبري

بعد عمر طويل يا وشمي.. فالوشم بأزهاره وأريجه مطلب للقاحلين.. ولا أقول القاحطين.. إذ لا يأس من رحمة الله.. نحن كبشر مسيرون لا مخيرون.. استبانت أمامنا طرق الخير.. ومسالك الشكر.. منحنا الله العقل كي نختار السبل الموصلة إليه الحياة في معناها أن نختار ولا نحتار.. أن ننسج برداً مخملياً من أفعالنا وأقوالنا.. من أفكارنا وأشعارنا ندعو فيه إلى الصحوة واليقظة.. إلى كرامة الإنسان.. وإلى عدالة حقه في الحياة دون تشنج في موقف.. أو حماقة في مخاطبة.. بالحب.. وبالأمن. وبالإيمان يحيا الإنسان عزيزاً فوق أرضه لا غربة لديه في روح.. ولا غرابة لديه في أهل.. أهلاً بك وقد أمتعتنا. ومنحتنا من وشم شعرك ما أنعش ذاكرتنا في زمن ذاكرة الفصحى فيه تتآكل على غفلة من أهلها.

* * *

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5013» ثم أرسلها إلى الكود 82244

الرياض ص. ب 231185 الرمز 11321 فاكس 2053338

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة