Culture Magazine Monday  19/01/2009 G Issue 267
فضاءات
الأثنين 22 ,محرم 1430   العدد  267
مجموعة كتب (فيلبي).. ومدى أهميتها!
علي محمد العمير

 

لم أر، ولم أسمع، بين كل ما عرفت، ومَن لم أعرف من سائر الناس مَن هو أكثر هبالاً، وبلاهةً، وحمقاً من رجل أمعن الطعن في السن، وأثقلت كاهله متاعب الحياة، وتناوشته الأمراض من كل جانب!!

ورغم ذلك.. رغم كل ذلك، وغيره من قبيله، يعكف هذه الأيام بهمة مدهشة وحماس منقطع النظير على قراءة المجموعة الكاملة لكتب (جون فيلبي) أو (عبدالله فيلبي) وهي (12 كتاباً) بالتمام والكمال، بما هي عليه من ضخامة، وبعضها يقع في أكثر من مجلد واحد!!

والأغرب حقاً أنه قد قرأ بعضها منذ زمن بعيد!!

لم يقرأها فحسب.. بل محّصها تمحيصاً، وبخاصة كتاب (أرض الأنبياء) أو (أرض مدين)، كما هو عنوانه في طبعته الجديدة حيث أتيحت له، في أوائل التسعينات الهجرية، زيارة تلك النواحي بدعوة من سمو الأمير (محمد الفيصل) مع مجموعة المدعوين.. أقلتهم طائرة (داكوتا) خاصة ظلت رابضة بجوار مخيمهم بينما يتنقلون هنا وهناك في المنطقة بالسيارات يجوسونها من سائر نواحيها!!

وأما صاحبنا، وقد كان - حينذاك - في عنفوان شبابه.. فقد اصطحب معه الكتاب الآنف الذكر (أرض مدين) مصرّاً على مطابقة ما ورد فيه من تحديدات وأوصاف لسائر أنحاء تلك المنطقة بما في ذلك - بطبيعة الحال - ذلك الوادي الذي عُقرت فيه (الناقة) التي كان يصرّ بعض أهل تلك الناحية على أنهم ما زالوا إلى ذلك الحين (التسعينات الهجرية) يسمعون حنين حوارها!!

وقد حرص صاحبنا كثيراً على الإنصات، آناء الليل وأطراف النهار، طيلة إقامته تلك في المنطقة، لعله أو عساه يسمع صوت ذلك الحوار اليتيم، ولكن دون جدوى!!

وقد قام الوفد بمرافقة سمو الأمير، ومن ضمنهم صاحبنا، إلى تلك الجبال التي تنص عليها الآية الكريمة (وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ) وشاهدوها جميعها عن كثب وتداولوا النقاش بل الجدل حول إذا ما كانت تلك البيوت المنحوتة على شكل قصور في غاية الروعة على مساحة الواجهة الكاملة لكل جبل منها!!

ولكن لا توجد في أسفل كل منها غير حفرة يمكن اعتبارها مجرد (غرفة صغيرة) لا يمكن أن تكون بيوتاً، بل هي أقرب ما تكون قبوراً لا بيوتاً.

وكان سمو الأمير ومرافقوه يشاهدون صاحبنا، وهو يقلّب كثيراً ذلك الكتاب؛ فسأله سمو الأمير عنه.. فقال له إنه - بمناسبة هذه الرحلة - بصدد كتابة بحث مطول بعد الرجوع إلى المظان، وسيجتهد فيه قدر إمكانه حيث الكتاب الذي معه، وهو كتاب (أرض مدين)، ليس مرجعاً تاريخياً بل هو كتاب وصف أماكن، وتحديد معالم تقريباً، شأنه شأن جميع كتب الرحلات، سواء رحلات المستشرقين أو سواهم من مؤلفي كتب الرحلات!!

ومن ثم لا يمكن لهذا الكتاب الذي معي أن يكون مفيداً لنا في موضوع نقاشنا، وجدلنا حول إذا ما كانت هذه الحفر بيوتاً أو قبوراً.

ولكن ما أذكره جيدا - يا سمو الأمير - أن (البيت) معناه (القبر) أيضاً، بيد أنني لا أستطيع الآن الجزم في هذا الشأن أو غيره مما شاهدناه إلا بالرجوع إلى المظان المهمة في مكتبتي المتواضعة بعد عودتنا!!

وقد قام صاحبنا بالفعل بكتابة موضوع مطوّل جداً، سواء عن تلك الرحلة بكاملها، أو عن تلك المسائل المتعلقة بالوادي، والناقة وحوارها!!

وعلى الأخص هذه الجبال المنحوتة ببراعة منقطعة النظير تقريباً، ثم لا يوجد في أسفلها غير حفر صغار.. هي إلى صفة (القبور) أقرب منها بكثير جداً من أي صفة للبيوت.. فضلاً عن القصور!!

وقد كتب صاحبنا فعلاً بكل توسع، وأدلة، وبراهين، وصور، وقد نشر كل ذلك في جريدة (البلاد) حيث كان يعمل حينذاك، وقد كان نشر الموضوع على مدى عدة حلقات.. كل حلقة على مساحة صفحة كاملة مع الصور بالطبع!!

وحيث قد علمت ما علمته من ناحية عكوف صاحبنا هذه الأيام على قراءة مجموعة كتب (فيلبي)، بما فيها - بصفة خاصة -، ذلك الكتاب (أرض مدين) الذي كان قد محّصه تمحيصاً على نحو ما أسلفنا، وليس قراءة له فحسب!!

علمت كل ذلك وغيره من خلال زيارة لصاحبنا تجديداً للعهد به، والاطمئنان على أحواله؛ باعتباره صديقاً قديماً جداً من (عهد سيدنا نوح)!!

وعلمت أكثر فأكثر عن كونه غير مهتم بمتعة القراءة فحسب.. حيث غالباً ما تكون كتب الرحلات على قدر أو آخر من المتعة.. بل هو يقرأ ويمحص - كما كانت عادته دائماً - سواءً مع كتب رحلات أو غيرها!!

وهكذا لم يكن بوسعي غير بلع لساني، والكف عن السخرية به، أو مناكفته - كما هي عادتي الدائمة معه - عند كل لقاء؛ فلقد ألجمتني الدهشة من صنيع صديقي مع مجموعة كتب (فيلبي)!!

ولكن لكي أفتح سيرة أو مجالاً للحديث معه سألته عن رأيه في مدى أهمية إعادة طبع كل هذه المجموعة الهائلة على ما في ذلك من هدر للجهود والأموال.. كان الحريّ بها أن تبذل على كتب أهم أو أحدث أو أكثر جدوى وفائدة!!

فقال لي باسماً:

اطمئن - من هذه الناحية - حيث إعادة طبعها لم يكن بهدف جدوى، أو فائدة علمية، أو نحو ذلك.. بل هو إلى التجارة أقرب من كل ذلك، حيث كان توقيت طبعها متزامناً مع مناسبة كبرى من مناسبات المملكة، وهي (مناسبة المئوية)!!

ثم تبسم مرة أخرى، وهو يقول:

وفي فهمك الكفاية أيها الصديق!!

ولكن مع صرف النظر عن هذا الهدف من الطبع أو غيره حيث تحسب الأمور في مثل ذلك بالنيات.. وعندي - أيها الصديق - أنه مهما كانت النية هنا.. فقد جلبت معها، دون شك، فوائد جُلّى ليس أدناها كون هذه المجموعة لم تطبع في السابق دفعة واحدة.. بل هي لم تطبع جميعها.. بل طبع بعضها منجماً طباعة رديئة للغاية مع سوء في الترجمة، وأكثر طلباً، في معظم الأحوال، للأهداف التجارية ذاتها، وإن اختلفت المناسبات!!

ولكن رغم ذلك أو غيره تبقى لهذه المجموعة الضخمة من كتب (فيلبي) مجموعة متنوعة من شتى الفوائد، حتى وإن لم ترق إلى مستوى المرجعية التاريخية الكاملة إلا أنها تظل مجالاً خصباً لدراسات عديدة موسّعة، حيث تزخر بالكثير جداً من أوجه المقارنة بين ما كان عليه الحال في كثير من أنحاء الجزيرة، ومرتفعاتها، وسفوحها، وسهولها، سواء من الناحية الجغرافية أو التضاريس أو أحوال المعيشة فيها أو ما كان يعانيه سكانها في سائر أنحائها من عنت، ومشقة، وسوء حال، وشظف عيش قبل أكثر من نصف قرن، وبين ما هو عليه الآن!!

ومن عجب - يا أخي - أن المؤلف كان على نصيب وافر من الحظ، وروعة المصادفات على مدى أكثر من سبعين عاماً قضاها في منطقة الشرق الأوسط، وبخاصة في الجزيرة العربية حيث سنح له قربه من جلالة الملك (عبدالعزيز آل سعود) أن يشاهد بل يعايش عن كثب مدى التطورات بل القفزات الهائلة التي تحققت فيها بدءاً من سنوات القحط والجدب إلى بشائر الخير والرفاه ورغد العيش. ناهيك عما في بعض ذلك - فضلاً عن كله - من مجال خصب للكتابة مع قلم سيال، وفكر مستنير، وأسلوب سلس متدفق مثل ما هو عليه شأن (عبدالله فيلبي) الذي جعل من كل ما عايشه، وسبر غوره صوراً حية نابضة.. سواء كان التقاطها بواسطة (الكاميرا) أو عبر طريق الكلمات الحية المعبرة!! بل إن من حظه الوافر كذلك هو أن قربه من جلالة الملك عبد العزيز.. قد هيأ له أفضل الوسائل لرحلاته الكثيرة دون كثير عنت أو مشقة من نوع ما عاناه وكابده كل مستشرق جاء إلى هذه البلاد!! بل هيأ له ذلك صلات وطيدة مع كبار رجالات الملك أو مع شيوخ القبائل وسادة القوم أينما حل أو ارتحل، ومن شأن ذلك، بل بعضه، توفير مادة غزيرة ثُرّة لأبنائنا من الباحثين في جامعاتنا.. أو سواهم في أي مكان أو زمان!!

ومن أهم ما في ذلك مدى تنوع المواد، وكثرة مناحيها؛ مما يتيح مجالاً لدراسات لا حصر لها، سواء كانت أكاديمية أو غير أكاديمية!!

وهنا لا بدَّ لي من إشارة على استحياء، وهو أنه لم يتح لي بعد الاطلاع على أي دراسات من هذا النوع، وربما يعود ذلك إلى قصور متابعاتي أو إلى ندرة بل عدم وجود هذه الدراسات، وهذا - لا شك - مثار استغراب!!

ولنا بعدُ عودة إن شاء الله.

جده

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة