Culture Magazine Monday  19/01/2009 G Issue 267
فضاءات
الأثنين 22 ,محرم 1430   العدد  267
الوعي العربي بين الإزاحة والإحلال (ليس بالورد يعيش السلام)
سهام القحطاني

 

ذكرت في مقال سابق أن ما يحدث في غزة قد يُستغل لمصلحة إزاحة وإحلال لهوية جديدة للعرب تتمركز حول القيمة الإسلامية وليست القيمة العروبيّة، وحتى تتم عمليتا الإزاحة والإحلال تلك فهما تحتاجان إلى مثال تطبيقي يُدعم نفعية القيمة الجديدة المقترحة للإزاحة والإحلال، وأعتقد أن النشاط المعنوي الملحوظ لكل من تركيا وإيران والذي يُدفع إلى الواجهة مقابل تغيّب دور الدول العربية الكبرى عبر تضخيم بعض القنوات العربية الإخبارية لدور وحركة تركيا وإيران وتضخيم بعض المحللين العرب لذات الحركة والدور، والذين لا يفوتون مناسبة حتى يكرروا أن إيران وتركيا ستكونان سيدتي الشرق الأوسط الجديد، وهذا التلميع سيكون له الأثر الذي لا يستهان على وعي المواطن العربي والذي قد يمهد بالتدريج لعمليتي الإزاحة والإحلال.

وقبل متابعة الحديث عليّ أن أوضح نقطة حتى لا يفهم البعض منها غير ما أقصده. أنا لا أرفض أن تتمركز الهوية العربية نحو القيمة الإسلامية كرئيس لتأسيس الوعي العربي ورئيس لتشكيل هويته؛ فهذا هو الأصل الذي أسس في الماضي دلالة الأمة ودورها، وحتى عندما جاء الإسلام فهو لم يمارس إزاحة كلية للوعي العربي في ذلك الوقت وإنما أسسه وفق ثلاثة مستويات الإزاحة والتعديل والتبديل بما يعني أن عملية الإحلال لم تكن صادمة في كليتها، وقد يرى البعض أن هذه الزاوية من الرأي غير صائبة نظراً لشدة المعارضة التي واجهت الإسلام، والمعارضة عادة ليست دليلاً على صدمة الإحلال الذي تمارسه الإزاحة بل نتيجة تعارض الحسابات الفردية المختلفة مع القيم التي يحملها الإحلال.

وعندما استثنينا الأصل في عمليتي الإزاحة والإحلال للهوية العربية مقابل ترويسة الفرع في العصر الحديث حصدنا نتائج التقسيم وأهمها احتلال فلسطين والقطرية.

لكن مشكلتنا الدائمة ليست في دلالة القيمة الرئيسة بل في ممثلات تلك القيمة؛ أي ازدواجية معايير القيمة، وهذا يعني أن دلالة القيمة تُستغل لمصلحة ممثلاتها، ووجود الاستغلال في ذاته ينهي قيمة دلالة القيمة وهو ما يترتب عليه اختلاف النتائج عن أصل ما تسعى له الدلالة الرئيسة للقيمة.

وبناءً عليه فنحن لا نستطيع أن نراهن على نجاح نظرية المشروع الإسلامي للهوية التي قد تقودها إيران أو تركيا في (تأميم العرب)؛ لأن لها حساباتها السياسية الخاصة التي لا محالة ستفشلها.

كما أفشلت الحسابات الخاصة للأنظمة العربية نظرية المشروع العروبي في تحويل العرب إلى أمة.

وخاصة أننا كعرب نتعامل مع دلالات أي قيمة برومانسية ووجدانية مفرطتين مما قد يوقع الوعي العربي في فخ الخداع والزيف، والحقيقة أن البيانات الأدبية لها دور رئيسي في تسذيج الوعي العربي عبر تعبئته بشحنات رومانسية لا تحقق أي نفعية على مستوى التغيير وتهدر الطاقة التفكيرية والسلوكية للمواطن العربي.

والدليل على ذلك أن المجتمع العربي هو المجتمع الوحيد في العالم الذي لا يحتفظ تاريخه بأي ثورة جماعية في العصر الحديث حققت تغييراً، لا على المستوى السياسي ولا الاجتماعي ولا الثقافي.

وهذا له دلالتان أولاهما أن الرأي العام العربي كممثل للوعي العربي غير مؤثر في فرض التغيير على مجتمعه، والدلالة الثانية أن الوعي العربي يفتقد القدرة على الثورة لأسباب عديدة أهمها طبيعة تربية ذلك الوعي؛ فالوعي العربي ولد وتربى في مجتمعات غير ديمقراطية، والأحادية الناتجة عن غياب الديمقراطية أكسبته الحدّة، والحدة صفة وجدانية؛ أي أن أبعادها غير مقننة، وعدم القوننة يفقدها معيّرة التقويم ثم يؤدي إلى عشوائية التفكير والسلوك، والثورة في أساسها هي نظام تغييري قبل أن تكون سلسلة منتظمة من الانفعالات، وتلك العشوائية قد تُسهل قيادة ذلك الوعي من أي جهة تلعب على صفة الحديّة تلك، كما أن تربية الوعي العربي في مجتمعات غير ديمقراطية دعّم القاعدة الدينية لذلك الوعي مقابل تهميش العلمانية التي تعتمد عليها الديمقراطية، فكان تدعيم القاعدة الدينية للوعي العربي هو الضمان الكافي لقطع الطريق على الديمقراطية في المجتمعات العربية، الديمقراطية بمفهومها العالمي أي ديمقراطية تساوي العلمانية، ولا ديمقراطية بلا علمانية، أو كما وصف الأستاذ شاكر النابلسي (الديمقراطية والعلمانية جناحان لطائر الحرية) وإن كنت لا أتفق مع تلك العبارة بالمفهوم الإزاحي والإحلالي لها لكني لا أعترض على المبدأ العام.

وتوطيد القاعدة الدينية كمؤسس للوعي العربي وهي نفس القاعدة التي قد تُستغل لتأسيس وعي عربي جديد بمفهوم إمبراطوري أو خلافيّ. إضافة إلى أن تلك التربية خلقت وعياً عربياً مؤسسيّاً لا يستطيع الانفصال عن الخطاب السياسي الرسمي، وخطورة ذلك التعوّد أنه يجعل الوعي العربي يستجيب لأي خطاب مؤسسيّ، وهذا ما يفسر لنا فشل الحركات الإصلاحية الفردية في المجتمعات العربية، فالوعي العربي يؤمن بالمؤسسة الرسمية وإن غضب عليها، ويكفر بحركات الأفراد وإن وافق على بياناتها التغييرية.

والوعي هو إدراك للقيم عبر ممثلات ماضوية (أحداث، أفكار، تواريخ، أمثال، حكم، أعراف)؛ أي أن النمذجة تعتبر من أهم خصائص تكوين الوعي، كما أن تلك النمذجة هي وسيلة تطبيق وتقويم لكل ممثل جديد يتعرض له وعي الفرد أو الجماعة كما أنها تقوم بوظيفة فلترة للمشهد المعصرن؛ ولذلك لا نستغرب عندما يقول علماء الفكر إن (الوعي تركيب معايشات)؛ وبالتالي فإن تلك النمذجة هي التي تقرر في النهاية الإضافة أو الإلغاء، وحتى في حالة الإضافة تتحكم في شروطها ونسبتها.

طبعاً لا أريد أن يُفهم أن الوعي بهذا المفهوم مجرد جدار، بل هو أيضاً يملك قدرة التصور التي تعينه على أن يجمع بين الواقع والحقيقة، لكن إتمام ذلك عادة ما يرتبط بالخلفيات التي يصطف من خلالها الواقع وقرب الحقيقة من طبيعة نوع وشكل ذلك الاصطفاف.

والإدراك كمحرك لوعي الأفراد والجماعات يعتمد غالباً على الصورة الشعورية، والصورة الشعورية بدورها تعتمد على مجموع من المعطيات الشعورية، كل معطى شعوري يحمل قيمة معينة مدعّمة بإحساس ناتج عن رمزي (ممثل) مادي. هذه العلاقة بين العيني والذهني هي التي تتحكم في مواقفنا نحو الأشياء باعتبار أن الموقف هو رمز تقويمي للأشياء.

أما ما علاقة تلك العملية بفكرة الإزاحة والإحلال، فالعلاقة تكمن في الصورة الشعورية ومعطياتها التي لابد غالباً أن تحمل تصوراً وتؤسس لمفهوم جديد للأشياء، إضافة إلى أن المعطى الشعوري هو الذي يحدد الرموز التقويمية للوعي.

كما أن الثورة الإعلامية التي فرضت علينا ثقافة الصورة سهّلت عمليّة الإزاحة والإحلال؛ فأصبح الوعي يدرك عبر الصورة ويقوّم مدركاته عبر الصورة ويرفض أو يقبل عبر الصورة؛ وبذلك يصبح مَن يملك الصورة الشعورية بمعطاها الشعوري وحرية التصرف فيها واستغلالها لأغراضه يملك القدرة على الإزاحة والإحلال لأي وعي، خصوصاً لو أن تلك الصورة تمثل لوعي المستقبل علاقة وتاريخاً خاصين وتحمل ذكريات عاطفية في ذاكرة الوعي.

وهنا تكمن خطورة أن ترتبط الصورة الشعورية بغرض سياسي أو ديني تسعى إلى التشكيك في مدركات وعي المستقبل من خلال استغلال حماسته الوجدانية نحو حدث شعوري أو صورة شعورية، مقابل تمجيد مدركات تحملها تلك الصورة لجهات معينة بطريقة غير مباشرة.

وهو ما يدفع ذلك الوعي إلى مقارنة بين مدركاته والمدركات الجديدة، وآلية المقارنة في ذاتها كمجهود فردي هي تفعيل لممارسة جزئية للإزاحة، وبخاصة في وجود نشاط جاد لتحديد نمذجة خاصة تسير جنباً إلى جنب مع المجهود الفردي للممارسة الجزئية للإزاحة؛ لتصبح تلك النمذجة الخيار الوحيد فيما بعد كبديل للإحلال.

طبعاً خطورة الإزاحة والإحلال التي تُمارس على الوعي العربي عبر بعض القنوات الإخبارية التي تحاول تسريب فكرة العجز والعمالة لبعض الأنظمة العربية التي قادت الهوية العربية في العصر الحديث يجب التصدي لها من قبل المثقفين أولاً.

يجب أن يستوعب المثقف العربي هذا الأمر وأن يغير تفكيره نحو التعاطي مع الوعي العربي وأن يتخلص من وهم أنه وصي على ذلك الوعي وأن ينزل من برجه العالي ليرى الأمور كما هي على الأرض.

صحيح أن سلبيات الوعي العربي أكثر من إيجابياته وهو ما ولّد لدينا الإحساس بالانهزامية الدائم، لكني مع إصلاح الوعي العربي؛ مما يتيح إعادة صياغة خطابه الجمعي، وليس الانقلاب عليه.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244

جده

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة