Culture Magazine Thursday  19/03/2009 G Issue 275
قراءات
الخميس 22 ,ربيع الاول 1430   العدد  275
فتنة الـ(الفتنة)
أم أنها: (عبدالله الوشمي)؟!
خالد بن أحمد الرفاعي

 

تساءلت بعد أن ودعت مسؤول البيع في الجناح المخصّص ل(المركز الثقافي العربي) في معرضنا للكتاب: لماذا أصدر (عبدالله الوشمي) كتابه (فتنة القول بتعليم البنات في المملكة العربية السعودية) في هذا الوقت تحديداً؟

وتساءلت - أيضاً -: هل يمكن أن يكون دافعه تاريخياً محضاً؟ وهل تزوّد بالجرأة الكافية التي تعينه على مقاربة موضوع مثير كهذا في وقت مثير مثل هذا؟

وثمة أسئلة أخرى صحبتني إلى البيت ناراً لم يخبُ أوارها إلا بعد أن استسلمت للكتاب الفاتن؛ فانتهيت متلطخاً بصلواته والخطايا...

وفي الأسطر التالية أضع صورة من تأمل قاربت به (المقاربة)، ومن نظر أرسلته في كتاب (الفتنة) وبعث الفتنة، ومن جولة في المقصديات الحاضرة وراء (الحاضرة)، رغبة في تفتيش هذا المشروع الاستثنائي - إلا قليلاً - قبل أن يعبر شوارعنا التي تضيق بنا رغم اتساعها وقلتنا...

والنقاط أربع...

1- مقصدية الكتاب:

من يقرأ كتاب (الوشمي) من ظاهره يجد أربعة مسارات لمقصديته:

أولها: تقديم قراءة محايدة لحادثة تعليم البنات بعيدة عن الضغط الأيديولوجي الذي يتحكم بطرائق القراءات وغاياتها.

وثانيها: وضع الحادثة في سياقها الطبيعي زمنياً، بحيث تبدو كونية، وعامة، بدلاً منها (بريدية)، وخاصة... وإن بدا الكتاب ميالاً إلى غرابتها في المجتمع السعودي بالقياس على نظائرها في مجتمعات أخرى.

وثالثها: وضع الحادثة بتفاعلاتها في سياقاتها الطبيعية محلياً: (التاريخي، والاجتماعي، والسياسي...)، وقراءتها قراءة جديدة، أكثر إيجابية وانفتاحاًً...، وهنا - تحديداً - تظهر سمات طالما وأدها احترابنا الفكري من مثل: ارتفاع سقف الحرية في صحفنا، وثراء الحوار، ومواكبة أطراف المجتمع للأحداث المستجدة... (انظر: ص 8).

ورابعها: مراجعة مسلّمات ارتبطت بهذه الحادثة، وإخضاعها للبحث والمراجعة، ومن ذلك - مثلاً - قصر رفض تعليم المرأة السعودية على أهل (بريدة) دون أهالي مدن ومحافظات لا حصر لها.

لكنّ هذه المقصديات الأربع تبدو صغيرة أو داخلة في عباءة مقصدية هي الأكبر والأهمّ؛ لكونها حاضرة في المقصديات السابقة كلها، ولكونها - أيضاً - المولِّد الحقيقي لجمالية الكتاب بصناعتها زمناً إستراتيجياً - إن صح هذا الوصف - يتوحّد فيه الماضي والحاضر والمستقبل، كما سيتضح في العرض الآتي:

بدأ (الوشمي) كتابه بتحية فاضلة - مدخل، ومضى بوداع متكلف - خاتمة الختم، وفيما بين نزوله والارتحال قال أشياء كثيرة لم يقلها، وقدم لنا وثائق مخادعة تتزيأ بأزياء ماضوية وهي غارقة إلى أذنيها في الحاضر والمستقبل ومشكلاتهما، تماماً كما يفعل الروائيون الأذكياء حين يكتبون رواية تاريخية، فهم يعودون إلى شطر من التاريخ لا اعتباطاً كما تحسب أمة من الناس، ولكن لأن ذلك الشطر من التاريخ يشبه الحاضر، ولأنّ مشكلاته كمشكلاته، ونتائجه مثل نتائجه، هذا بالإضافة إلى أنهم في حديثهم عن الماضي يجدون أنفسهم أكثر وأكثر، ويتأملون ملامحهم على مرايا العصر بحرية أكبر وأكبر...

إنّ أولئك الروائيين الأذكياء عادوا إلى الماضي من أجل أن يتقدموا خطوات أطول وأعرض في سراديب الحاضر المزركش بنقاط التفتيش وحواجز الرمل...، فتلك النقاط والحواجز لا يمكن أن يتجاوزها أحد إلا بالقفز، والقفز لا يمكن أن ينجح إلا بالعودة إلى الوراء...، وإذا جاز لنا القول بأنّ قوة القفزة تكون بقوة العودة إلى الوراء... فإن (الوشمي) قطع هذه المسافة الطويلة في العودة إلى الوراء - الماضي ليقفز بنا مسافة مثلها إلى الأمام - المستقبل، تاركاً الحاضر خالياً للذين لا يعودون ولا يقفزون!!

يشير (الوشمي) إلى هذه المقصدية أكثر من مرة بصياغات إنشائية قد تفوت على كثير من القراء من مثل تساؤله عن الطارئ والثابت في تفاصيل هذه القضية (ص 46) وهو تساؤل يشي بقصدية الاستثمار، فضلاً عن الإسقاط، بل ربما عبر عنها بصراحة لا تحتمل إلا مدلولاً واحداً حين قال: ومن هنا فهذه دراسة تتصل بقضية ليست تاريخية تنحصر في معالجة لحظة من لحظات الزمان العابر فقط، وإنما هي تعالج قضية تترك ذيولها على واقعنا (ص12). وكان التصريح أكبر وأكبر في آخر مقطع من الكتاب، نقرأ: فالممانعون والمؤيدون يلدون أمثالهم في كل عصر وفي كل قضية، وتكاد تكون الحجج والاستدلالات والمحاذير هي نفسها، ولا يختلف إلا الأشخاص والأزمنة (ص170).

وإذن فالكتاب يجري في سياق إسقاطي كامل، واتكاؤه على قضية ماتت منذ زمن، إنما جاء بقصد توظيفها بشكل غير مباشر في معالجة قضايا آنية، وكأنه يقول لمن يقرؤون السطور وما وراءها: إنّ التعليم هو (السينما) عينها، وهو (قيادة المرأة للسيارة)، وهو (عملها) أيضاً...، وإنّ ما حصل في دائرة التعليم سيحصل في هذه الدوائر ودوائر أخرى تشبهها ولا تشبهها، فقط تتغير القضايا والوجوه كما يتغير المكان والزمان، لكنّ الفتنة تظلُّ هي الفتنة!!

وهذا هو السرّ الذي يقف خلف التصالحية العجيبة التي يبديها الكتاب - الفتنة مع مَن يقرأ؛ ففيه يمكن أن يجد الليبراليون - ومن في حكمهم - ذواتهم، وفيه يمكن أن يجد الإسلاميون - ومن في حكمهم - ذواتهم...، ومن الممكن أن يبدي الكتاب من المتكآت الفكرية بقدر ما يبدي قراؤه من متكآت، ربما لأن (الوشمي) نظّف ماضي القضية من تراكمات رانت عليه فكان لصالح الممانعين اليوم. ومن جهة أخرى انتصر لمستقبلها؛ فكان لصالح المطالبين، وإذن فمن يقرؤه في سياقه الأول يجد في الكتاب مبتغاه، ومن يقرؤه في سياقه الثاني يجد فيه مبتغاه...، لكنّ هناك سياقاً ثالثاً يقع بين السياقين السابقين يفتن من يسلكه، وفيه وحده تتضح ملامح الفتنة التي تبدو على وجه هذا الكتاب المحجّب!!

نقرأ للوشمي: (ولأنّ المرأة قادرة على إثارة ما لا يثار، فقد كان هذا هو الاختيار الأول، والمتكرر لهذا المجتمع الذي يتحفز ويحتشد للنهوض كل حين، وهو ما يدعو إلى معالجة هذه التداعيات وفق مسالك متعددة (ص29).

وهكذا إذن مقصدية الكتاب: توظيف الماضي في خدمة الحاضر، واستعماله - علمياً - في كتابة سيناريو المستقبل لعدد من قضايانا المشتعلة مثل النار فينا وفي الأشياء من حولنا.

ما فعله (الوشمي) يعد سبقاً فكرياً على مستوى ساحتنا المحلية لأمرين، أولهما: الإفادة من الماضي المحلي في علاج مشكلات يعاني منها الحاضر المحلي أيضاً. وثانيهما: قراءة ذلك الماضي قراءة محايدة وعلمية إلى حد كبير وإن كانت هناك أسئلة ولدتها سيرورة العرض تركها (الوشمي) معلقة بلا جواب قصداً أو دون قصد.

وفي تقديرنا أنّ قراءة الكتاب في غير السياق الواقع بين السياقين تفقده قيمته الحقيقية، وتساهم في تغييب مقصديته المهمة.

2- بريدة بين التبرئة والإدانة:

في مبتدأ الكتاب يعطي (الوشمي) إشارة إلى أنّ (بريدة) في دائرة المفترى عليها، حيث يقول: وقد ترعرعت في الأذهان المعاصرة مسلمة تواتر الجميع على التصديق بها، وهي القول إن ممانعةً ورفضاً جماهيرياً عاماً قام به أهل مدينة بريدة تجاه تعليم البنات، وذلك مما تعزم هذه الدراسة أن تحقق قضاياه...؛ إذ إن البعد الزماني يتكفل أحياناً بإعادة الحكاية وصناعتها، ويمارس تكثيف عناصر التشويق الخيالية فيه، وليست الحقيقة بالضرورة، وتصل إلينا حكايات ونماذج تاريخية، لا تخضع إلا لشرطنا المعرفي، أو لشرط رواتها؛ فهي ليست تسجيلاً للحقيقة كما هي، وإنما هي تسجيل لما نريد أن يكون حقيقة تنتشر بين الجميع، أو للحقيقة من وجهة نظرنا، ونقع لذلك مستلبين لآليات الأسطرة ووسائل الأدلجة ومعايير الناس في تصوير الواقع، وهو ما تعنى هذه الدراسة بكشفه (ص12 - 13).

إذن ثمة (أدلجة) و(أسطرة) و(تخييل) ساهمت في إعادة صياغة الحكاية وبنائها وفق مرادات فردانية، ومن ثم تجيء هذه الدراسة لتتجاوز بنا هذه الأبنية إلى الحقيقة التي ماتت تحت أقدام الرواة...

وهذا ما فعله الكتاب فعلاً، حيث عرض لممانعات داخل المملكة في (الزلفي) و(وادي الدواسر) و(تبوك) وأعرض عن مدن أخرى، وعن شخصيات ممانعة تنتمي إلى إقليم أكثر انفتاحاً كالحجاز، ثم عرض للممانعات التي جرت في (اليمن) و(قطر) و(العراق)، ودول أخرى أشار إليها غير واحد كما فعل (الموسوي) في (الحداثة المتعسرة)، وبجماع ذلك انتهى (الوشمي) إلى أنّ (بريدة) لم تكن وحيدة في هذا السياق، وأنّ الممانعة لم تنصرف إلى التعليم من حيث هو، ولكن إلى التعليم النظامي بشكل خاص...

لكنّ (الوشمي) الذي تحرّف للإجابة عن أسئلة لا حصر لها لم يجب عن السؤال الأهمّ في هذه الزاوية: ما الذي يجعل حادثة تعليم البنات في السعودية حاضرة في ذهنية المثقف السعودي وفاعلة في خطابه حتى اليوم في حين غابت المشكلة ذاتها سريعاً عن ذهنية مثقفي العالم العربي وخطاباتهم المتباينة؟! وفي سياق السؤال السابق يبرز سؤال يمكن أن ينوب عنه: لماذا لم يتحرف (وشميون) من (قطر) و(الإمارات) و(عمان) و(اليمن) و(العراق)، أو حتى من (مصر) لتأليف كتب خاصة تتحدث عن (فتنة القول بتعليم البنات) كما فعل (وشمينا)؟!

يبدو هذا السؤال مهماً في هذا السياق؛ فإذا كان من المنطقي وجود ردّ لفعل قائم، كيف يمكن أن نتفهّم بقاء هذا الردّ قائماً حتى بعد موت الفعل المحفِّز؟!

3- الحقيقة من زاوية واحدة:

أبرز (الوشمي) في كتابه كيف أنّ هناك مؤججات عديدة لممانعة الكثيرين لتعليم المرأة، وأحالنا إلى الدين والمجتمع والبيئة والمرحلة وبدايات تكوين الدولة وما إلى ذلك، لكنّ جملة تلك المؤججات كانت تتكئ على الدين في رفضها، وهذا ما تأسس عليه رأي الكثيرين من مثل قولة الملك سعود - رحمه الله - لمن طالبن بالتعليم: (المشايخ يرفضون - ص20)، وهو عينه ما تحتفظ به الذهنية الآن، ولذلك فمحاولات (الوشمي) - وإن كانت سليمة من حيث هي - لا تعدو كونها منتجات للمؤجِّج الأهمّ (الديني)، أو ناتجات عنه...

هل كان (الديني) سابقاً أو لاحقاً؟ لا يهمُّ...، المهمُّ أنّ (الدينيّ) كان حاضراً بوصفه ناتجاً أو منتجاً، ولم يكن (الاجتماعي) خالصاً من (الديني) في تأجيجه ولا (البيئي) كذلك. وإذا كان (الوشمي) مقتنعاً إلى هذا الحدّ بأنّ هناك مؤججات لا علاقة لها بالدين - كالبيئة مثلاً - فليفسِّر لنا - مشكوراً - كيف اجتمع وفدان من (بريدة) في بلاط الملك، أحدهما يطالب بفتح مدارس لتعليم البنات والآخر يمانع، رغم كونهما ينتميان إلى بيئة واحدة، ومجتمع واحد أيضاً؟!

ثمّ إنّ هناك شيئاً آخرَ حان وقت عرضه الآن في سؤال: لم تجاوز (الوشمي) جزءاً مهماً من الحقيقة التي يروم كشفها، وهي أنّ (المتدينين) كانوا جزءا من الحلّ كما كانوا جزءا من المشكلة؟!

تثبت الوثائق التي ذيّل بها (الوشمي) كتابه أنّ رأي أعلى سلطة دينية في ذلك الوقت كان المنع - المنع وليس التحريم - وبعد خمس سنوات (1380هـ) نجد تغيّراً كبيراً في هذا الرأي، انتقل به الحكم من المنع إلى الموافقة...، هذا الانتقال كان اللبنة الأولى للحلّ، والحفرة الأكبر لدفن هذه الفتنة؛ فبعد أن كان الممانعون يواجهون رغبتين: سياسية واجتماعية، صاروا يواجهون رغبات ثلاثاً: سياسية، وشرعية، واجتماعية...، وانكسر الجدار الأكبر الذي كانوا يتكئون عليه، وهو جدار المدرسة الدينية، من هنا جاء القرار معبراً عن هذه المحاصرة الثلاثية الكبيرة بداية من سطره الأول (ص27).

ماذا لو ظلت المدرسة الدينية على موقفها، وتمسكت بالمنع...، هل ستنتهي هذه الفتنة بهذا الشكل السلمي الهادئ؟! حتماً لا...، وهذا ما كانت تسعى إليه الحكومة، فهي - مع قدرتها على فرض التعليم بالقوة وبأسرع وقت ممكن - قد اختارت الطريق الآخر رغم صعوبته، وبطء نتائجه؛ فكانت النتيجة وأد الفتنة، وبداية مرحلة تاريخية جديدة، تدشنها الحكومة والعلماء والشعب...

إذن المتدينون كانوا جزءاً كبيراً من الحلّ كما كانوا - من قبل - جزءاً كبيراً من المشكلة، فلماذا يتمُّ التحالف على إبرازهم اليوم بوصفهم المشكلة فحسب؟ ولماذا سلك (الوشمي) الطريق نفسه، وأخذ يعرض الحقيقة من زاوية واحدة، في استسلام غريب للحالة الثقافية التي يتقلب في أحضانها؟!

وإذا ما كانت مقصدية الكتاب الربط بين قضايا الماضي والحاضر، فلمَ لم يستثمر (الوشمي) هذه الجزئية، ويقدمها للقارئ؛ ليتم إسقاطها على واقعنا الذي نعايشه؟ إذ كلنا نعي جيداً أن تفهّم العلماء للواقع الذي يحيط بنا سيكون سبباً في حل كثير من المشكلات المعلقة كقيادة المرأة للسيارة - مثلاً -؟!

هذا المأخذ مؤثر في الحكم على الكتاب، ومؤثر أيضاً على مقصديته المهمة.

4- إضافات:

من يقرأ الكتاب - الفتنة قراءة واحدة يجد عدداً من الجزئيات المهمة قابلة للعرض والاشتغال، أعرض بعضها هنا مذيلة بأسئلة:

- إن اشتهار القصيم بالممانعة عائد إلى طبيعة أهلها، هذه الطبيعة يمكن أن نطلق عليها: (التفكير بصوت مرتفع)، فبحسب عدد من شهود الماضي - والكتاب نفسه - كانت الممانعة كبيرة وشاملة لعدد من المدن والمحافظات، فلماذا اشتهرت القصيم بشكل عام دون غيرها؟ الإجابة تكمن في أن أهل القصيم خلقوا من ممانعتهم لغة، دخلت مفرداتها معاجم الزمن الماضي...، وهذا الأسلوب - وإن كنا نرفضه من حيث غاياته - إلا أنه أسلوب حضاري ما فتئ الناس يطالبون به حتى في مجتمعات أكثر انفتاحاً...، لقد اعتاد أهل القصيم على إيصال أصواتهم إلى ولي الأمر، وشرح رؤاهم وتوجساتهم وآمالهم بين يديه...، والتعبير له عن كل ما يتردد في نفوسهم، وهذا - في تقديري - السبب الأهمّ من بين أسباب بقائهم في الذاكرة التي ما زالت تحتفظ بذكريات تلك القضية - الفتنة.

هنا نتساءل: لماذا قصر (الوشمي) شهرة الممانعة على (بريدة) في حين الراصد الخارجي لا يتحدث إلا عن القصيم بشكل عام، هل يمتلك (الوشمي) أدلة لأطراف من خارج القصيم تتحدث عن (بريدة) مفردة دون غيرها من محافظات القصيم؟ لا أدري!

- يشير (الوشمي) إلى أن رفض أهل (بريدة) لم يكن لتعليم البنات ولكن لأسلوب تعليمها، واعتمد فيما قال على عدد من الأدلة التاريخية القوية، وما أريد أن أضيفه هنا: أنّ أهل بريدة حين اكتشفوا بأعينهم أن هذا الأسلوب التعليمي سليم ونقي انتقلوا في مدة وجيزة من حيز الممانعة إلى حيز المطالبة، وكما كانوا يذهبون إلى الملك مطالبين بالمنع صاروا يذهبون إليه مطالبين بالتوسع، وهذا يعطي دلالة لاحقة على أنهم لم يكونوا ضد التعليم من حيث هو ولكنهم ضد الأساليب التي لم تتضح بعدُ ملامحها، وهذا ما استثمره كثيرون من مشوهي التاريخي، وملفقي الوقائع؛ فجعلوا منه ظلماً للمرأة، وإيماناً بتفاهتها، متجاهلين أنّ المنع كان لتعليم البنين كما كان لتعليم البنات.

السؤال هنا: كيف تعامل رافضو التعليم مع البنات اللاتي التحقن بالمدارس منذ ولادتها؟ هل قاموا بمقاطعتهنّ ومقاطعة أهلهنّ؟ هل تمّ اتهامهنّ في دينهنّ وأخلاقهنّ؟ هل تعرضن لعزوف الشباب عن الزواج منهنّ كما يحصل اليوم مع العاملات في القطاع الصحي؟

إن الاشتغال على هذه الأسئلة المهمّة سيجلي لنا بعداً مهماً من أبعاد علاقاتنا الاجتماعية حين يطرأ عليها طارئ، وطارئ في الفكر تحديداً.

- عرض (الوشمي) أسباباً كثيرة دفعت أهل (بريدة) إلى الاعتراض على تعليم البنات، وهي محل نظر - وإن أبدينا شيئاً من التحفظ على بعضها في النقطة الثالثة - وما أريد إضافته هنا هو دعوة (الوشمي) إلى البحث في الصورة التي كان عليها تعليم البنات في عدد من الدول التي سبقتنا إليه، ذلك بأنني لمست في عدد من الفتاوى والمقالات الملحقة بالكتاب إحالة إلى واقع تعليم البنات في عدد من الدول العربية، وكيف أنه تعليم مخالف للشريعة الإسلامية، وعادات المجتمع، وقيمه... هذا بالإضافة إلى الارتباط التاريخي بين تعليم البنات وقنوات الاستعمار المتعددة، وإذا ما توجه (الوشمي) - في طبعته الثانية - إلى تفتيش هذا الجانب، والتأكد منه، فإنه سيكون سبباً مهماً من أسباب اشتداد هذه المقاومة، بل ربما فاق جملة من الأسباب التي أشار إليها، والشأن عينه نلمسه اليوم لدى ممانعي قيادة المرأة للسيارة، والمسرح، والسينما...

النهاية:

ما قدمه (الوشمي) في هذا الكتاب سيفتح ملفات كثيرة: دينية، وسياسية، وفكرية، واجتماعية، وسيكون هذه السنة دائرة جدل محلي أقدر أن تغلب فيه الغوغائية والشللية الحيادية والمعرفية، ولا أشعر بحرج من أن أصرح باعتراضي على عدد من مقاطع الكتاب، وعلى جزئيات قليلة في بنيته المنهجية، وإن كنت أحمد له التزامه الحياد - لا الموضوعية - في عرضه، وأسلوبه الذي بدا متأدباً مع من أفضى إلى ربه من المؤيدين والممانعين، وابتعاده عن ذكر الأسماء في كثير من مواطن الكتاب...، ووضعه القضية - من حيث الجملة - في سياقها الطبيعي، وقراءتها بمرجعية معرفية تستحضر تأثير الدين والزمان والمكان والتكتل على الإنسان واختياراته.

ولأنه كذلك، ولأنّ مقصديته تتكئ على الإسقاط والاستثمار، وعلى النظر إلى الواقع بعين كبيرة تضم الأزمنة الثالثة، فإنني أنظر إلى هذا الكتاب على أنه سابقة معرفية في ثقافتنا المحلية، ومن الواجب على التيارات التي تتجادل اليوم فيما يكون ولا يكون أن تطالعه، وأن تبحث في تفاصيله عن الحقيقة...، ورغم أهمية هذا الكتاب في ذاته فإن الظرف الزمني الذي ولد فيه سيشوّه وجهه، ويخالف بين ملامحه، وسيفقده قدراً كبيراً من قيمته، وستثبت القراءات المتعلقة به كيف أننا نمتلك قدرة غير عادية على الاجتزاء من السياقات، وتحميل الدوال مداليل لا تمت لها بصلة.

وعلى أية حال لا يملك منصف إلا أن يشكر للدكتور عبدالله الوشمي هذه الإثارة المعرفية الثقيلة، فهي إثارة جميلة حتى وإن آلمتنا...، ولئن خسر (الوشمي) بها أمة من الناس، فحسبه من الخير أنه كسب نفسه...، وكسبها أيضاً.

alrafai16@hotmail.com - الرياض

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة