Culture Magazine Thursday  19/03/2009 G Issue 275
سرد
الخميس 22 ,ربيع الاول 1430   العدد  275
مدائن
محمد بنيس.. بين الشعر و(فاس) ولع الحياة
إعداد - عبدالحفيظ الشمري

 

 

 

 

 

 

 

حينما يرتحل الشاعر أو يقيم، يبقى حزنه في معزل عن أي مغريات أو محفزات، أو حتى نزوات.. بل نراه غالباً ما يذكي جذوة نقده لما حوله دون أن يكون موارباً، أو مهادناً لمن حوله.. فها هي سيرة الشاعر مع الحياة منذ الأزل. أما إن كان شغوفاً بها فخذ من مجد الوجدان ما تريد.

هنا وعلى أطراف مدينة (فاس) العريقة في المغرب يظهر وجه الشاعر محمد بنيس، وتنهض شعريته المعبئة دوماً بحب تلك المدينة التي نبت فيها، وترعرعت تجاربه العقلية والمعرفية، فكانت هي المحطة الأولى لسفره في دروب البحث عن الذات.

لم يتخل الشاعر محمد بنيس عن خطابه الإنساني تجاه الأرض، لنراه وقد صاغ تجربته مع تلك الأماكن العابقة في الماضي الذي تكتنزه مدينته الحابلة بالقصص والأساطير، والحكايات القديمة عن مدينة تعشق الماضي، وتؤسس له شيئاً من البقاء في الوجدان. ففاس مدينة الشاعر بنيس لا تقف عند حدود التمترس فوق تراثها، إنما تتعداه إلى بناء علاقة إنسانية فاعلة تؤسس لخلق جيل جديد من المريدين والأتباع، فكيف يكون هؤلاء شعراء على شاكلة محمد بنيس الذي لم يقف عند حدود الشعر في جمالها إنما ذهب إلى البحث والتتبع في منعرجات خطابها الإنساني والوجداني، فصاغ إلى جانب دواوينه دراسات وأبحاث عنيت بالشعر المغربي ولا سيما (فاس) الحابلة بأسرار الجمال والوعي والحياة المتناقضة في تكوينها الثقافي المتداخل بشكل فني بديع.

المدينة في وجدان الشاعر محمد بنيس تبقى هي تلك البقعة المضيئة في ذاكرة الطفولة، والمنابت الأولى:

(كواكب من جغرافية الأسلاف

على أغصان دمي

تنشأ نوّارة

فتنتها

يا ريحان الرغبة

من هذه الصحراء المنفرجة)

هنا يذيع الشاعر سر افتتانه بالصحراء، ليؤصل في خطابه الشعري منحى آخر غير هذه المدينة التي تسكن أدنى همومه وأكثرها رقة وحضوراً.

ومن الشعر إلى النثر.. فها هو عاشق (فاس) يهجرها إلى مدينة أكثر حبورا فيها.. هي مدينة (المحمدية) حيث يتواضع الناس فيها على تكوين طيف إنساني مدهش إلا أن محمد بنيس حينما يصف مدينته الجديدة (المحمدية) يضع فيها من أسرار فاس، والرباط، وباريس ما قد يجعل منها مدينة عامرة بمصاحبة البحر والغرباء الذين يغذون المسير إليها محملين بوهج البحث عن دعة وهدوء قد تدره هذه المدينة التي تستنبط من (فاس) بعض مظاهرها الجمالية الوادعة.

محمد بنيس يقارن بين (فاس) منابته الأولى و(المحمدية) الملهمة الجديدة له في زمن باتت المدائن فيه تتشابه، وتلتقي على مشهد مادي واحد يتمثل في البحث عن القمة فقط، بعد أن كان الشعار المعبِّر هو البحث عن الذات ولا سيما حينما يكون حاملاً هواجس العطاء الإبداعي الجميل على نحو فنان يبحث عن أذن تسمعه، أو رسام يبحث عن عين ترعاه، أو شاعر تحوطه الدهشة، أو كاتب تتفاعل معه الذائقة كما نراه في (فاس) ومن بعدها (المحمدية) في تجربة شاعرنا محمد بنيس.

لقد توارث الشعراء منذ الجاهلية، وحتى الآن حالة تقمص المكان (الوقوف على الأطلال) فلم تخل أي تجربة شعرية عريقة أو حديثة من انبعاثات هذا الخطاب.. لنرى الشاعر محمد بنيس وقد كرس هذا المفهوم للتعالق مع فضاءات المكان لكنه لم يقف على (الأطلال) كشاعر يدعي الفحولة إنما جاء شاعراً ملهماً، سادراً في معانيه الوجدانية نحو أرض تلد له الجمال، وفضاء يدر عليه من لبن الفأل ما يفيد بلوغه مجد الحياة الهانئة.

المدينة لدى الشاعر بنيس في ديوانه (هبة الفراغ) و(كتاب الحب) مزيج من جذل طاغ، لفرط مناجاة حميمية بينه وبين المدينة التي تسد عليه منافذ التفكير حتى أنه لا يجد سوى (فاس) و(المحمدية) و(الرباط) في قائمة تلك المدن المترامية.. فهو الحب لمدن وجد ذاته فيها.. قبل أن يهجس في أمر رحيل محتمل قد يعيده من حيث بدأ.. بمعنى أن يعود إلى مدينة الأولى.. منابته التي يعجز عن مبارحتها كلما عنت له هواجس النأي.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة