Culture Magazine Thursday  21/05/2009 G Issue 284
أقواس
الخميس 26 ,جمادى الاولى 1430   العدد  284
فاعلاً مع الإشارة لتقاعد الغذامي هذا العام
الفارس لا يترجّل!
عبدالفتاح أبو مدين

 

لعلي في عنوان هذا الحديث، أنطلق من قول شاعر الأمة العربية أبي الطيب المتنبي: (أعز مكان في الدنا سرج سابح).. وحديثي عن أخي الأعز المحب الدكتور عبد الله بن محمد الغذامي؛ ذلك أنني قرأت في هذه المجلة الثقافية بتاريخ 12 جمادى الأولى 1430هـ، أن الدكتور عبد الله على أبواب أو في طريقه إلى التقاعد؛ والأخ عبد الله تحدث عني كثيراً بالكثير من فضله وكرمه، ولعل هذه المناسبة التي سيجنح إليها بعد مشوار طويل بلغ أربعة عقود من الجهاد، تتيح لي الحديث عن أخ محب مخلص أمين.. وأكبر الظن أن هذه الخصال مجتمعة، وأضيف إليها أخرى مهمة جداً وهي التقوى.. والعلاقة الحميمية بدأت مبكرة، منذ أن كان عبد الله الغذامي يتلقى الدرس في معهد عنيزة العلمي؛ كما حدثني وكتب، أن الصحف المحلية التي تصل إلى معهد عنيزة أيام الصحافة الفردية، فإن يد صاحبي كانت تمتد إلى (مجلة الرائد) التي كنت أصدرها من جدة، وهي مجلة أدبية، وهذه العلائق يؤكدها الحديث النبوي الشريف: (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف).. أما اللقاء المتجدد وجهاً لوجه، فكان قبل نحو ثلاثين سنة في جدة، يوم جاء أخي إلى دار البلاد للطباعة والنشر، وكنت يومها العضو المنتدب فيها، جاء وكان مسؤولاً عن نشرة تتعلق بطلبة قسم الإعلام في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، وهو أستاذ في قسم اللغة العربية بكلية الآداب بالجامعة، جاء لدار البلاد للتفاوض عن طباعة تلك النشرة، وكانت المفاجأة، وهو قد عرف قبل مجيئه من الأخ الدكتور غازي عوض الله الأستاذ بقسم الإعلام.. كانت المفاجأة لكلينا، وكانت فرحتي وفرحته عميقة الوقع؛ حيث امتد الحديث عن - الرائد - ؛ ولا أغلو إذا قلت إن ذلك اللقاء الأول الذي امتد نحو الساعة ونصف الساعة أو أكثر، كان حديثاً من الأعماق لكلينا، وكأننا يعرف بعضنا بعضاً دهراً، ليست معرفة سطحية عابرة، ولكنها من الأعماق! ألم أستشهد بحديث خاتم رسل الله صلى الله عليه وسلم الآنف: (الأرواح جنود مجندة).. وليس عجيباً أن أقول إن هذه الحياة حفيلة بالمفاجآت مثل حالي وصاحبي، وصدق القائل: (وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا)، والفعّال في الأمور هو الله!

ومنذ تلك اللحظات في دار البلاد بجدة، تقوّت العلائق، ولا أقول بدأت، ذلك أن البدء كما قلت منذ وصول مجلة الرائد إلى معهد عنيزة العلمي قبل خمسين سنة.. ثم كان التلاحم في النادي الأدبي الثقافي بجدة عبر سنوات عشر حفيلة بالعمل المثمر والمثير في مجال الثقافة، وكانت تلك السنوات أخصب أيام نادينا، وكان أكثر الأندية إنتاجاً وأقواها نجحاً لما قدم من عطاء اتسم بالتميز عبر منبره، حيث كان في كل أسبوع يقدم ضيفاً متميزاً، حتى قال أخي عبد الله (ذبحتنا)، وهو معذور في ذلك، لأنه كل يوم يقدم درسه المتجدد لطلبته وهذا يجهده مع أنه شباب، وكان السهر إلى منتصف الليل أو بعد ذلك، وكنت أنا أمارس عملاً إدارياً في مؤسسة البلاد للصحافة ثم انسلخت منه بعد أن جاء رجل مقرف بكل المعايير، كان يشغل المديرية العامة للمؤسسة، ولا يلقانا إلا ساعات محدودة كل أسبوع، لأنه يشغل منصبه في العمل الأساس طوال الأسبوع؛ ولذلك فلم يطل مكثي معه، فآثرت الاستقالة وتفرغت لإدارة النادي لأن ما يقدمه من نشاط منبري كان يتطلب جهوداً مضنية؛ لكني لم أحس بها، لعل مرد ذلك النجح الذي تحقق للنادي، حيث كنا نستقدم رموزاً كباراً من الوطن العربي، وكانت ليالينا في فندق العطاس بالبغدادية الشرقية حافلة بالحضور؛ لأن المكان بالمكين كما يقال؛ فالضيوف الذين يفدون إلينا من المحاضرين دفع الناس لاسيما رواد الثقافة ومحبيها يسعون عبر تواصل متجدد من غير أهل جدة، من مكة المكرمة ومن الطائف، وأحياناً من المدينة المنورة ومن المنطقة الوسطى والقصيم والشرقية والجنوبية، وكان النادي يمارس أعماله من خلال شقة بها ثلاث غرف في عمارة الأخ عبد الحميد شويل رحمه الله بطريق المدينة النازل.. وكانت قمة عملنا يومئذ: (قراءة جديدة لتراثنا النقدي)، شارك في هذا الملتقى الكبير واحد وعشرون أستاذاً باحثاً بدرجة الدكتوراه، منهم ستة من بلادنا والباقي من الوطن العربي بدءاً من الدار البيضاء إلى جدة، وأنتج هذا الملتقى ألف صفحة في مجلدين أصبحت مرجعية للدارسين في الوطن العربي؛ ومن النادر أن يجمع ملتقى ثقافي عربي هذه النخبة من الرجال؛ وكان هذا الحفل الكبير ففي الشهر الرابع من عام 1409 الموافق شهر نوفمبر 1988م.. وحقق نجحاً كبيراً لأنه كان متوقداً على المستوى المتقدم في نادينا ووطننا وذلك بتوفيق الله عزَّ وجلَّ.

وكان أخي الدكتور عبد الله الغذامي يشغل نائب رئيس النادي؛ ولعلني كنت أعرف كيف أختار أصدقائي ورفاقي في النادي ولم يخب ظني.. وكم كنت سعيداً بكل ما تحقق للنادي من نجح وبروز، وكنت أستشير من أثق في قيمة مشورتهم، وكان أخي الغذامي الألصق، ولم نفشل في مشروع حققناه في النادي، وتغمرني السعادة حين يردد صاحبي عبر الصحافة أو المجالس، أنه لولا وجود فلان في النادي ما بقيت فيه عشرة أعوام، وأقول إنه فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.. وذهاب أو انتقال صاحبي من جدة إلى الرياض، لم تفتر فيه العلاقة، فالوفاء باق، لأن النفوس المتحابة في الله تتوطد مع الأيام قرباً ومودة؛ ولا أقول محالاً إذا أعلنت أن مرور الأيام تزيد الأواصر قوة، لأن أخي فيه خصال حميدة قلما تجمعت في الرجال، ولعل الوفاء والمعدن الخالص والصدق والمروءة والسماحة، جذور هذه العلائق الإنسانية.. إن هذه السمات التي يتحلَّى بها صاحبي تجعله في مقدمة الرجال، يصاحب ذلك الشجاعة والوعي والإدراك والصبر على المكاره، وكذلك فإن من خصال صاحبي ميزة قلما نراها اليوم وهي أنه لا يغضب في الحجاج؛ فقبل سنوات التقى بمفرده مع مجموعة من الرجال من جامعة الإمام، امتد التحاور أكثر من أربع ساعات في دار أحد الأمراء في الرياض، فكانت هناك قدرات اختص بها الأخ عبدالله الغذامي؛ أحدها أنه لا يغضب من الاختلاف في الرأي، والأخرى أن قدرته على الحجاج لا يعروها ضعف في المواقف، وأستطيع القول إن هاتين الميزتين من النادر توفرهما في المتحاورين، عبر ما رأيت من خلال الملتقيات التي تفضي إلى ارتفاع الأصوات والتشنج والخصام، لكن أخي في المطارحات لا تثيره الحدة فيغضب ويختل توازنه؛ وهو قد أدرك من ثقافته الواسعة الغنية بالعمق، أدرك بحق أن الغضب يقود إلى التراجع وإلى الهزيمة؛ ولعل ضعف التحصيل المعرفي أحد أسباب عدم المقاومة؛ والدكتور الغذامي ذو قدرات كثيرة، وحتى حدته لا تخرجه من مجريات التواصل الحواري، ونجد أن حججه كثيرة لا يستطيع خصمه أن يقاومها؛ وإذا ذكرت القدرات المعرفية على مستوى الوطن العربي فإن الغذامي يكون في المقدمة، وليست العاطفة هي ملاذ هذا الحديث الذي أصافح به أخي وصديقي بمناسبة بلوغه مرحلة التقاعد؛ ومن خصال صاحبي الغالية الكريمة الوفاء، فهو قد أعلن لجامعته - جامعة الملك سعود - ، أنه سيقدّم درسه النقدي مرتين في الأسبوع تطوعاً بلا مقابل، وهذا المسلك من خصائص أولي السخاء وحدهم..، والحديث عن صاحبي المحب جميل لأن من أتحدث عنه جميل في نفسه وخلقه وتربيته، هو قيم، لعل منها الوفاء والمروءة، سمتان جميلتان من خصائص الرجال الكمَّل.. أعود إلى القول: إن الفارس لا يترجل، وأبو الطيّب قال: (أعز مكان في الدنا سرج سابح ).. وأخي له مزايا وله سجايا من خصاله الجمة التي يتحلى بها بل هي قيم هو أهل لها.. مدّ الله في حياة هذا الرمز الغالي وزاده فضلاً على فضل ليبقى سمة الرجال الأعزة بالتقوى والخصال الحميدة زينة الرجال، ومنها الخلق العالي وأدب النفس الذي يسبق أدب الدرس، إذ لا قيمة لأدب الدرس إذا خلا من أدب النفس؛ والغذامي يفاخر الوطن به كرمز عرفه الوطن العربي منذ قدم كتابه - الخطيئة والتكفير - ، وهو في كل محفل للنقد متجدد، ذلك أنه يتجدد درسه، فأصبح علماً يفاخر به وطنه للمميزات التي أتيت على نماذج منها، وأعيد القول بأن التقوى رأس تلك المثل، وإنه لفضل الله عليه وعلى الناس والحمد لله رب العالمين.

- جدة

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة