Culture Magazine Thursday  21/05/2009 G Issue 284
مراجعات
الخميس 26 ,جمادى الاولى 1430   العدد  284
أجنحة بلا ريش
سعد البواردي

 

السفر مع شاعرنا الكبير الراحل شاقة وشيقة.. شاقة لأننا أمام شاعر يمتلك أجنحة غير منظورة حلّق بها دون ريش.. وشيقة لأنّ فارس المرحلة يقدم ألواناً طباقاً شهية.. وغذاءً فكرياً دسماً.. تناولناه جميعاً افطاراً، غداء، عشاء.. دون أن نصاب بالتخمة لأنها مكونات غذائية فكرية فطرية كهوَ.. بدوية كهوَ.. أصيلة كهوَ.. ما تذوقته سأطرحه أمامكم مجاناً دون فاتورة دون إلزام.. وإنما بالتزام هو بعض حقه عليّ.

لا أبتغي إلا التفاتاً.. طلب متواضع لا يكلف حلم خياله كثيراً.

يا من أود لو انني

سوط تحركه يمينه

أمنيات كثر.. غير السوط.. عقيدة. وظل وسيف ومعقل. وسريرة. ومنام. ووفاء. وتاج كلها تمناها.. بعد أمنياته جاء خطابه

يا من حلا للقلب مر

رّ الصاب فيه وهان هونه

واستعذبت نفسي الهوى

من اجله. وبدا كمينه

الحرب أنت حسامها

والصلب أنت له تلينه

إذا كان هذا هو حالها.. فكيف بقلبه الأرق من الصلب.. والأحق بالرأفة.. شاعرنا أمام قوة رهيبة هي امرأة.. هو رهين لمحبسها.. ولقدراتها الفائقة.. أن يعترف بالعجز أم سلطته وسلطانه.

أبغي لك العمر الطويل

تزيد من عمري سنينه

لك شاعر بالعجز والتقصير

ترهقني ديونه

ماذا ستفعل في فؤاد

أنت فطرته ودينه

لم يقل لنا لا تصريحاً ولا تلميحاً من يعني.. أهو حب لإنسان؟ أم حب لعقل؟ أم حب لسلطان شاء أن لا يسميه.

(فكرة.. شحنة من الذكريات.. والحياة ذكريات:

كم ذكريات قد أتت وتصرمت

فتنسى أواليها وتنسى التواليا

والمرء في الدنيا مواقف جمة

يسادر فيها العيش مراً. وحاليا

ينسيك هذا الدهر ان راح مرها

ويطمس ذاك الحلو إن جاء غاديا

إنه دعاء العمر يا شاعرنا الراحل يستوعب الحلو. والمر.. الحلو يمر سريعاً وخاطفاً.. أما المر فإنه يظل بذكراه أكثر طولاً وعرضاً.. ومع هذا لا شيء يتغير في مسيرة الكون..

فيوم علينا ويوم لنا

ويوم نُساء.. ويوم نسر

هكذا قال شاعرنا القديم.. وهو نفسه ما يقوله شعراؤنا الجدد.. لا جديد تحت الشمس.

يكاد ربيب الدهر يوحي بأنني

طويت.. ولم يشعر بذاك.. اللياليا

وكم احتقب حزناً ولم أدر لذة

فما الفرق بين الحي والميت ثاديا

الفرق بينهما أن الحي يستشعر حروف زمنه.. أما الميت فإنه جسد بارد لا نبض فيه.. ينخزه الدود.. يتبقى منه روح في مواجهة حسابها. شاعرنا الراحل تجرع من الحزن كأسه في حياته ولكن بإباء وشموخ.. كان بإرادته أقوى من الهزيمة.. لأن العزيمة لديه لا تنثني.. حتى وإن توجع..

قولا لذات اللمى.. من يعني بقوله؟ وهل قالاها أم هو نفسه قالها؟

قولا لذات اللمى هل جاء خبر؟

فإن صاحبها أودى به السفر

طالت على الجسد الولهان شقته

واستفحل الداء واستشرت به الغير

ومله الضجر العاتي وهل أحد

يقوى على أمره أن مله الضجر؟

إن الهموم وإن خفت محاملها

ليل على لهب الأبصار معتكر

توصيف أصيل وجميل انتهى بخطاب منه مباشر:

يا ذات عينين سوداوين شابهما

سحر فكاد بما قد شاب ينسحر

وذات خدين ما احتاجا على قبل

الا ورقاً رفيفا كله سحر

ماذا يسركِ من حذن على رمق

شلو تبلغ منه الناب والظفر

لو لم يعش كان احجى ابيد أن له

حظا من الشقو لا يبقي ولا يذر

تذكرت شعر عمر ابن أبي ربيعة في جزالته.. وأصالته وأسلوب طرحه.. وانتقائه لمفرداته الجزلة..

ما كان أحلاك لم لو ينطمس أثر

فيك القداة ولو لم ينطبق بصر

سكنت في الترب بيتاً ما تحل له

عرى ولا يتنزى فيه مصطبر

لقد سبقت فهلا يستريح ثرى؟

وهل يلفلف من غلوائه حجر؟

رثائية رائعة استكثرها عليه من استكثر.. وكان الجواب:

ما صدقوني أناس حين قلت لهم

يا من حسنك حسن مرهب. خطر

يعود مع خيالها الغارب يذكر.. ويتذكر.. ويذكر.

هلا ذكرت - وان لم أنس - صبوتها

إلى اللقاء وإن لم تنفع الذكر

عصافر الخلد لا تقوى على قدر

فكيف ينسج في أحلامنا القدر؟

كلنا ننسى.. فما سمي الإنسان إلا لنسيه.. فينا من يتذكر. وفينا من لا.. فينا من يسبق تذكره بعد نسيان.. وفينا من يسبق نسيانه تذكره. وحبيبة شاعرنا من هذا الفصيل:

لتذكرني مليا.. ثم تنساني

يا شعلة من هوى في زي إنسان

أرى رسوم الهوى في اثره انطمست

واستعجمت. ونبت من بعد تبيان

فلا حلاوة ثغر يوم قبلني

ولا طلاوة جرس يوم غناني

برود. في برود في برود.. النسيان هو المسيطر..

راحت كأحلام ليل في قصيد صدى

ففدّ عن زمن من بعد أزمان

ماذا لو كنا شيوخاً هرمين كما هي الحال مع شاعرنا؟!

لو كنت شيخاً.. أيا له من سؤال؟

يضحك ربات الجمال الثقال

من أنا؟ إن لم أراك معروريا

ظهور اعوام عراض طوال؟

إني لذو شيخوخة اطفأت

جذوة قلبي بعد فرط اشتعال

سهل أن يشتعل الرأس شيباً.. وصعب أن يشتعل القلب عيباً.. سرحان الفيلسوف يزيدنا وضوحاً:

ألست بالشيخ. وقد شمست

رأسي خيوط الشيب بعد الظلال؟!

أبيض ما سرت به مقلة

قد اشعل الفود. واورى التذال

القلب مني قد براه الضنى

والجسم قد ادخل فيه الكلال..

شيخوختان اعترف بهما شاعر.. شيخوخة شعر.. وشيخوخة قلب.. وأبقى لنا شباب شعر لا يشفع.. ورغم إيماننا بحياة شعره إلا أنه لا يجد له شارياً في سوق الكساد:

مضى راغبا بالشعر يحسب أنه

يسوق الدراري. أو يقود العرعرا

ألا ليت شعر الشعر ما بال حلبه

سرابا؟ وقدما يحلب الماء. والدّما

وربت شعر قيل في غير أهله

كمثل المصلى غير أم تأثما!

ترنمت محزونا على فرط ضيقتي

وماذا على المحزون ان يترنما!!

هذه المرة يتمرد على كبر سنه.. يتظاهر بأنه شاب مشبوب الحركة.. له عنفوانها وعنفها.

ألم تر أني بعد خمسين حجة

أصوّت حتى لم أجد لي داعيا

واني لم أبهج بعمري مرة

ولم ألف يوما ضارعا متشاكيا

ألم تعلموا أني على فرط كبرة

من العمر أصبحت امرأً متصابيا

كأن العيون السود حين أرومها

على الطيف ذرا باهر الضوء حاليا

لا أحد في البشر يحب الكبر.. أو يعترف بالكبر الا العمر نفسه بملامحه المتجعدة التي لا تقوى كل أدوات التجميل ومساحيقه على تجميله..

الطلل باقي أثر كان في يوم من الأيام حياً يرزق.. أو يورق.. و يقطمه.. حتى بقايا الذكريات أنها تبني طللا في جوف قلوب أصحابها:

في جوف قلبي طلل دارس

عفى عليه الدهر حتى محاه

يعج بالآمال حتى هوى

في ذكريات كان فيها ذكراه

آثار حب. ومغاني صبا

أيام كان العمر حلو جناه

كم حل فيها من حبيب مضى

طواه في ربع البلى ما طواه؟!

تلك هي الحقيقة ولا شيء سواها.. في قلوبنا اطلال.. وظلال من الماضي نتصورها.. ولا نقدر أن نسكنها لأن أركانها متهاوية حين يختطف الموت زهرة عمر متفتحة.. يعاجلها الأجل على حين غرة.. الجلل يكون أكبر.. وادعى للحزن.. دمية الحسن كما أسماها.

يا دمية الحسن في افياء وارفة

من الخمائل يجري حولها الماء

ما كنت أحسب أن الموت مرتقب

فيك الأوان إلى أن حسك الداء

وأنت صامتة لا النفس جازعة

وان تأفف من بلواك أعضاء

ومفردة تأفف معبرة إلا أنها على ما أحسب لا تتناسب والموقف.. ربما مفردة (وان تأوه) أوفق.. لقد أغمضت الدمية الحسناء كما أسماها عينيها لقدرها المحتوم.. ودعت.. وودعها شاعرنا بقوله:

لكم تأسيت والتأساء ذاهبة

سدى.. ولا تنفع المخزون تأساء!

سرحان الرائع صوت حب لا يخف.. ونبع عشق لا يجف.. إنه أشبه بطائر غريد ينتقل من شجرة إلى شجرة.. ومن ثمرة شعر إلى ثمرة مشاعر.. أجهدتني ملاحقة وجدانياته.. إلى الحد الذي أعفيت قلمي من رصدها مجتمعة.. اخترت البعض.. وودعت البعض.

شاعرنا يتطلع إلى أعلى حيث النجم السابح في فضائه البعيد.. يخاطبه.. وربما يعاتبه نجم شعري في الأرض يناجي نجماً درياً في السماء.

رأيتك يا نجمي.. فهلا رأيتني؟

وكيف تراني في قرار فلاة؟

فأرهفت إحساسي وذكرتني الهوى

قطفت جناه في ربيع حياتي

واسقيت لي حلما أراه على المدى

عصيا فعاد الآن جد مواتي

منحتك من شعري واكبر غرسه

واهديتك المختار من خطراتي

وقال أصيحابي لقد فاتك الهوى

ألا رب شيء عاد بعد فوات

ما فات لا يعود.. قد يعود بشكل آخر.. وبصورة أخرى.. وبمذاق آخر.. شاعرنا القديم أكد على هذه الحقيقة بقوله:

ما مضى فات.. والمؤمل غيب

ولك الساعة التي أنت فيها

ليته كان مثلي.. بماذا؟ وعلى ماذا؟ على هذا التشبيه الذي عناه شاعرنا؟

صاح من دهره. وبث شكاة

وتمنى لو كان في العيش مثلي

موقنا أنني سعيد.. وأني

أقطع العمر في نعيم وفضل

لست أدري ماذا أقول ولكن

ليته كان مثلما شاء مثلي

ليته عاش مثلما عشت حتى

لا يغرنه خداع المظاهر

أظهر الصبر للأنام وفي أعما

ق قلبي بركان فيزوف ثائر

ليتني كنت مثله فارغ المقا

ب خليا.. وليته كان مثلي

بهذه الصورة الرابعة رسم لنا جانباً من رؤى الناس الذين لا يرضون بقناعتهم.. وبواقعهم.. ويغبطون غيرهم على خير لا وجود له في حياتهم..

حديثه عن الأقدار جاء باقتدار:

ما أدرك العالم من مطلب

مثل الذي يدركه الجاهل

سيان عند القدر الفاسق الأعمى

هوى والرشد الفاضل

قد يدرك النائم آماله

أنه يحرم المستيقظ الآمل

الحياة حظوظ أكثر منها استحقاقاً.. هكذا يريد أن يقول.. وهكذا أريد أن أؤكد على ما يقول.. وعن نفسه يقول:

إنه قاتل المرء ففي مكسب

أو ناضل المرء فعن نفسه

فالبدر في أفق السما ساهرا

ليستمد النور من شمسه

والشهم يدمى قلبه راضيا

ليكسب الضن على طوسه

وغاية المفرط في طهره

كفاية المفرط في رجسه

قوس قزح تأملي فلسفي له أكثر من مشهد محصلة أهداف السعي.. وغايات الحركة نهايته ذكرى بعد أفول شمس الحياة. ولأن الحياة طموح ومطب يتساءل شاعرنا.. كيف؟ وكيف؟

كيف لا نستطيع أن نهجر الذل

ونبغي على الحياة سبيلا؟

كيف لا نجعل الثبات طريقا

كيف لا ترجع الأماني هيولا؟

كيف لا نستطيع نبذ التجافي

لنجاري الأنام ميلا فميلا؟

كيف لا نستطيع نيل المعالي

كيف لا ترجع الحياة الأولى؟

كيف نمنا. والناس يقظى وك

يف النهج حتى نذلل المستحيلا؟

لا مستحيل يا شاعرنا في وجه الإرادة التي تحسم خطاها في وجه خطاها.. بالعمل والعمل.. بالصدق والانتماء تشاد صروح الحياة سامقة شامخة.. المهم الحركة.. ومن سار على الدرب وصل.

السرحان بعينه اليقظة اللاقطة يشخص فيما حوله.. فلا يراها.. يسأل أين هي؟

حللت دارا ولم تحلل معي فيها

من كنت أمحضها حبي وأصفيها

شطر المزار فلا وهم يقربها

ولا خيال على العلات يؤديها

كأنني لم أكن يوما بجانبها

ولم أرد عليها من أغانيها

كل ادكار تلاشى بعد شورته

مثل السمادير: ماتت عين رائيها

لم يلحق إجابة بعد.. لعل لها المعذر وهو يلومها.. الهائم وجه شارد لا يدري أين يتجه.. وأين يذهب رسمه شاعرنا في مقطوعته:

واسع الخطو مهرعا لا إلى شيء

ولا ملويا على الشيء ذاته

وتراه يجول أي مجال

يتحدى الملتاث في وسوساته

ذاهبا. آيبا. اليفا. عنيفا

فقد إحساسه ألذ صفاته

ألمحياه أم لمرآه يمضي

ما يبالي هلاكه من نجاته؟

سرفة الليل عنده مثل نور الصبح

سيان في اتجاه انفلاته!

إنه عمى الألوان.. عمى العنوان.. عمى البصيرة.. مجرد لحم يتحرك مع هبوب عاصفة عمياء تمتد لترتد. هكذا المترددون.. المرتدون في نهج سيرهم.. نتقبل مع فارسنا داخل حقل شعره.. من ثمرة ناضجة إلى أخرى.. هذه المرة يجتذبها وإياه ظل أرفى عليه الليل ستاره.

الليل يدفعني الليلة اذا سجا

فأطل في حلك الظلام.. واهتدي

طورا. وطورا. أني قانع

أن ليس إخفاقي علي بسرمد

***

حسين سرحان

200 صفحة من القطع الكبير

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5013» ثم أرسلها إلى الكود 82244

الرياض ص. ب 231185 الرمز 11321 فاكس 2053338

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة