Culture Magazine Monday  23/02/2009 G Issue 272
فضاءات
الأثنين 28 ,صفر 1430   العدد  272
شموخ الفلسفة وتهافت الفلاسفة(2)
دراسة حالة - أرسطو
د. راشد المبارك

 

تَدَيُّنُ أرسطو
من الصعب - إن لم يكن من المتعذر - تكوين رأي قاطع عن تديُّن أرسطو أو تصوره للذات الإلهية وصفاتها، فهو من ناحية يرفض كثيراً من معتقدات مجتمعه وعاداتهم، ومن ناحية ثانية يقول بأزلية المادة والكون والتغيّر والزمان، وبينما نراه يقول في القسم الأول من المقالة الثانية عشرة من مقالاته فيما وراء الطبيعة بمحرك أزلي واحد للكون لا يتحرك - من باب اعتقاده أن الحركة لا تحدث إلا بمحرك فإن الله من أجل ذلك غير متحرك -، كما أنه في نهاية المقالة يعود ليقول بتعدد الإلهة لتعدد الأفلاك ثم يعود في المقالة مرة ثالثة للقول بالتوحيد، والذي يفهم مما كتب في هذا الموضوع أن الإله الذي يؤمن بوجوده وأزليته هو الإله الذي هو التفسير النهائي للكون وظواهره والحل للمشكلات الفلسفية وليس تصور العامة عن الإله من جهة الثواب والعقاب، وهو في هذا يتفق أو يقترب مما عليه أفلاطون كما جاء في بعض محاوراته، وفي هذا الجانب تستوقف الباحث ظاهرة في منتهى الغرابة وهي مما يصعب تعليله أو تحليله، وأغرب من ذلك أن أحداً من الباحثين لم تستوقفه هذه الظاهرة - فيما يعلم الكاتب - هذه الظاهرة هي عدم تأثر الفلسفة والمعتقدات الإغريقية بالديانتين الحنفية واليهودية، وأكثر من ذلك عدم وجود أي إشارة إلى أي من هاتين الديانتين وما فيها من عقائد وتصور عن الكون والحياة فيما كتبه الفلاسفة اليونانيون إلى ما قبل المسيح، وإذا كان من الجائز القول إن ديانة إبراهيم لم يصل إليهم شيء من آثارها، إذ لا يوجد حتى الوقت الحاضر أثر مكتوب من الديانة الحنفية إلا أن ما يثير الدهشة هو الإغفال المطلق للديانة اليهودية وقد كُتبت التوراة (العهد القديم) وانتشرت الديانة اليهودية قبل ما يقرب من سبعمائة عام من ظهور بدايات الفلسفة اليونانية، ومن المعروف أن اليهودية كانت منتشرة على الشواطئ الشرقية والجنوبية من البحر الأبيض المتوسط وأنها قريبة الصلة والاتصال الجغرافي والسياسي والتجاري مع هذه البلاد وأن إحدى المنارات الحضارية اليونانية الكبرى قد أقيمت في مصر وهي مدينة الإسكندرية التي بناها الاسكندر الأكبر وأعطيت اسمه، على أن التأثر بالديانات والفلسفات الأخرى البعيدة عن اليونان من الناحية الجغرافية والصلات التجارية والسياسية مثل المعتقدات الهندية والصينية قد كانت واضحة الأثر فيما كتبه واعتقده الفيثاغوريون وأفلاطون وعلى الأخص فيما يتعلق بعقيدة التناسخ، ولعل هذا الأمر يجد من يهتم به ويبحث أسبابه ودوافعه، ومما يلحق بذلك هو الإهمال المطلق من قبل الفيلسوفين أفلاطون وأرسطو لذكر أو التعليق على ما قال به ديمقريطس في مذهبه الذري مع اعتراضهم ورفضهم لما قال به كثير من الفلاسفة مثل طاليس وبرمنيدس وسواهم.
فلسفة أرسطو
ليس من غرض هذا الكتاب ولا مما قصد إليه الكاتب مناقشة فلسفة أرسطو أو ما تركه من تراث في اتساعه وشموله، ولكن الذي يعنيه منها ما يتعلق بغرض الكتاب وهو الجانب التقريري وجانب الوثوق لما يراه هو ومن عاصره أو سبقه من الفلاسفة، كما انسحبت هذه الظاهرة على من جاء بعدهم، هذه الظاهرة - كما تقدم - هي الوثوق الذي يكاد أن يصل إلى حد اليقين بصحة ما يصلون إليه فيما بحثوه، على أننا نرى أن ما جاء في ما كتبه أرسطو عن الطبيعة وما وراء الطبيعة يكفي لبيان هذا الجانب لديه وإظهاره.
ا- الطبيعة:
الطبيعة عند أرسطو لا تعني ما تعنيه هذه المفردة في وقتنا الحاضر، أي ما تعنيه مفردة PHYSICS وإنما تعني مجموع الأشياء الطبيعية المعرضة للتغير والفساد، وأهم ما كتب في هذا المجال كتاب (السماع الطبيعي) وكتاب (السماء)، وفي الكتاب الأول بحث المبادئ الأساسية لهذا العلم، وكان حجر الزاوية فيه هو البحث عن (التغير)، إثباته وتأصيله، وتأكيده للتغير حمله على البحث في التمييز بين (الصورة) و(المادة) أو المظهر والجوهر، وفي كتابه الثاني بحث مفردات الطبيعة مثل الأفلاك والأجرام السماوية، وفي كتاب الحيوان بحث الأحياء، كما بحث في كتاب (النفس) آرائه عن النفس في دراسة موسعة، وهنا يحسن أن نشير إلى أن هناك كثيراً من التداخل بين ما كتبه عن (الطبيعة) وما كتبه عن (ما وراء الطبيعة), ولعل سبب هذا التداخل هو القرب بين المجالين أو أنه كتب عن الموضوعين في أوقات متباعدة، وقد درس في هذا المجال بإمعان الزمان والحركة والمكان، ونورد هنا بإيجاز شديد ما يتعلق بهذه المواضيع مما يشير إلى وجود هذه الظاهرة وبروزها، وهي ظاهرة التقرير والوثوق.
أ- الزمن:
عرّف أرسطو الزمن بأنه: (مقدار الحركة منظوراً إليه من ناحية التقدم والتأخر) وهو عنده أزلي، إذ لو قلنا بأن الزمان حادث للزم أن يكون الزمان أقدم من حدوثه، إذ لا كون بلا زمان، والزمان لا ينتهي فلو انتهى لكان هناك وقت ولا زمان وهذا مستحيل لأن الزمان ليس سوى مرور الوقت أي مرور أجزائه، ولصلة ذلك بالحركة ولأن الحركة تقتضي الامتداد فإنه رأى الزمان متوقفاً على الامتداد، ولكن الامتداد متصل فالزمان -إذن - لا بد أن يكون متصلاً أيضاً، ومع ذلك فقد أضاف إلى التعريف السابق إضافة جديدة، حيث قال إن الزمان شيء معدود والمعدود لا يكون كذلك إلا بوجود عاد ف (النفس) - إذن - لازمة لوجود الزمان.
ب - التغير:
في بحثه للتغير ورده على برمنيدس الذي يرفض التغير ومنه تغير الزمن قال إن رفض برمنيدس للتغير ناشئ من عدم إدراكه لنوعين من الوجود وهما: الوجود ب (القوة) والوجود ب (الفعل)، وفرق بين هاذين النوعين من التغير:
1- أ- يؤول إلى ب
2- ب- يتكون من أ
النوع الأول: يكون التغير في صفة المتغير أو صفاته مثل أن شخصاً ما لم يكن موسيقياً فتعلم الموسقى فصار موسيقياً، وعناصر التغير هنا ثلاثة، (المتغير) و(الموسيقي) و(اللا موسيقي)، وهذا يعني أن شيئاً جاء من لا شيء لأن الموسيقي جاء من لا موسيقي.

النوع الثاني: هو ما يتحول فيه الشيء إلى شيء آخر لم يكن موجوداً قبل فهو لا يعني أو يتضمن إضافة صفة جديدة للموجود السابق وإنما يعني تكون شيء جديد، ومثل هذا النوع لا يحصل إلا ل (المادة)، وذلك يوجد باكتساب المادة (صورة) تدخل عليها، مثال ذلك قطعة من النحاس يصنع منها تمثال، فهنا التمثال لم يكن موجوداً قبل صنعه ولكن الموجود مادته، فالتغير هنا إعطاء (المادة) (صورة) ظهرت عليها، هذه الصورة قد تكون إنساناً أو حيواناً أو غير ذلك، وهذا هو الفرق بين (المادة) و(الصورة)، وعدم تفريق برمنيدس بين الأمرين هو ما حمله - كما يظن أرسطو - على إنكار التغيّر، فالتحول من النوع الأول يعني مجيء شيء من لا شيء، أي مجيء موسيقي من لا موسيقي، وهذا النوع تحول في الصفة، ولكن عندما يشار إلى التحول من ناحية (المادة) فإنه لا يكون مجيء شيء من لا شيء، ذلك أن التمثال جاء من النحاس، ولتأصيل هذا الأمر أدخل أرسطو التفريق بين الوجود ب(القوة) والوجود ب(الفعل) أي أنه عندما يصير شخص موسيقياً بعد تعلمه الموسيقى فقد كان أصلاً موسيقياً ب(القوة) قبل تعلمه لها، وتعلمه الموسيقى أظهر هذه الصفة فيه من وجود ب(القوة) إلى وجود ب(الفعل)، وهذا هو ما يحدث لبذرة الشجرة فهي قبل غرسها وسقيها شجرة ب(القوة) لأنها تُجن مكونات الشجرة، وغرسها وسقيها حولها من شجرة ب(القوة) إلى شجرة ب(الفعل) وهكذا في حالات كثيرة.

    يتبع

الرياض

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة