Culture Magazine Thursday  25/06/2009 G Issue 289
فضاءات
الخميس 2 ,رجب 1430   العدد  289
خزعبلات الثقافة الغربية
لمياء باعشن

 

في عموده (على حد حلمي) في جريدة عكاظ (الأحد 28-06-1430هـ 21- يونيو-2009 العدد: 2926) كتب الأستاذ خالد قمّاش مقالاً بعنوان (الراعي والنساء)، علّق فيه على خبر الراعي الذي حوّل حظيرته إلى عيادة طبية يعالج فيها ويرقي ويفك السحر في منطقة حائل. يضع الكاتب لومه، ليس على الراعي الاستغلالي وتحايله ومكيدته، بل صب نقده على المرتادات للحظيرة من الساذجات اللواتي ما زلن يركضن (وراء الوهم والتداوي عند الدجالين والمشعوذين وباعة التمائم والطلاسم). ثم أشار إلى دراسات متخصصة؟ (لم يذكرها) أثبتت - (على حد قوله)- (أن المجتمعات البدائية هي الحاضن المناسب لترويج هذه الخرافات والتسويق لما يسمى شيوخ الرقية والتداوي بالنفث و(التفل) في الماء والقراءة على الزيت).

بعدها قاده التحليل المنطقي إلى استنتاج غير منطقي مفاده أن الدول العربية هي بالضرورة واحدة من تلك المجتمعات البدائية، حيث إن العقلية العربية المتخلفة لا تزال ترى (الشيخ) أو (الولي) أو (السيد) أو (المولى) أو(الملا) هم أصحاب الكرامات المزعومة التي على أيديهم يحل الشفاء ويزول البلاء). تقف الدول العربية إذن على خط نقيض مع (الأمم المتحضرة والمنعتقة من وهم الخرافة كأوروبا وأمريكا مثلا التي لا ترتهن بأي حال من الأحوال لهذه الأفكار المجترة من إرث سحيق). (على حد منطقه)!

ولنترك حدود أحلام الأستاذ قمّاش ونخترق حد تساؤله الأخير الذي ينهي به مقاله القصير: (هل سمعتم بأمريكي مصاب بمس من الجن أو أوروبي أصيب بالعين والسحر، مع أنهم أكثر منا جمالا وأوفر نعمة وخيرا؟) لو أنني أجبت هذا السؤال بالإيجاب فهذا يكفي لدحض الجدل من أساسه، فقط لو قلت نعم، لقد سمعت بالأمريكي المصاب بالمس والأوروبي المصاب بالعين لاختفي الراعي وتلاشت معه النساء وبقيت مقالة قمّاش على حد حلمه بالفعل.

في الحقيقة يصعب علينا أن نتصور أن العالم الأول الذي غزا الفضاء وابتكر تكنولوجيا العلوم ما زال يتمسك بمعتقدات يمكننا أن نصفها بالخزعبلات، معتقدات قديمة (من إرث سحيق) ما زالت موجودة في أرقى المجتمعات المعاصرة. نحن نظن خاطئين أن العالم الغربي بعلمه وعلمانيته قد تخلص من ذلك الإرث تماماً، لكنه في حقيقة الأمر إرث متجذر في أعماق الثقافة الغربية، وبقوة يصعب معها انتزاعه وزعزعته. هذه الخرافات والمعتقدات التي تبدو بالية لنا من موقعنا خلف الأمم، هي في واقع الأمر ليست قاصرة على ثقافة بعينها، بل هي النسيج البشري الذي غزلته المخيلة الجمعية على مدى القرون، معتقداتنا الأولية هي نحن، هي الإنسان في كل مكان على وجه هذه المعمورة.

في الغرب الراقي يخاف كثير من الناس من العين الشريرة التي تهدد بزوال النعم، فيخبطون على الخشب حين يتحدثون عن النعمة للإبقاء عليها، ويذرون الملح فوق أكتافهم، ويرددون التعاويذ، ويرتدون التمائم، ويلهثون بالرقيا ليحصنوا أنفسهم من الخطر المحدق بهم وليدفعوا أذى العيون وتحديقها. هم يحملون الحجارة أو قطع من الخشب أو الأصداف وأشكال الحيوانات المصغرة من خنازير وأفيال، أو حتى قطع العملة المعدنية لأنهم يعتقدون أنها تجلب لهم الحظ good-luck charms. على أبوابهم يعلقون عقوداً من الثوم لتطرد الأرواح الشريرة وحدوات الأحصنة لتبعد االشياطين. في اليونان لا يكاد مدخل بيت أن يخلو من شجرة صبار تعمل أشواكها على درء الخطر الذي تبثه العين الشريرة.

(الأمم المتحضرة) لم تنعتق تماماً من وهم الخرافة، ففي مدنهم ستجد أن الفنادق والعمائر الشاهقة لا تمنح الرقم 13 لأي من الأدوار، وكثير من ساكنيها يخشون القطط السوداء لأنها شياطين متخفية، ويتحاشون المرور من تحت السلالم، ويمتنعون عن فتح المظلات فوق رؤسهم داخل منازلهم، وتقشعر أبدانهم حين تنبح كلابهم في ليال يكتمل فيها القمر لأنها نذير بموت أصحابها، ذلك الموت الذي يقترب من المريض إن انتقل من غرفته خلال فترة مرضه، ويحوم حول العائلة لو صدف أنها صفّت في منزلها ثلاثة من الكراسي متجاورة في خط مستقيم.

قد يجد أحدنا هذه المعتقدات بريئة ولا ضرر منها، بل قد تبدو مسلية ولا تساوي ما يثير حفيظة الأستاذ قمّاش في مقاله سابق الذكر، لذا فلنتعمق قليلاً في الثقافة الغربية التي (لا ترتهن بأي حال من الأحوال لهذه الأفكار المجترة من إرث سحيق). في الإعلام الغربي تظهر برامج يقدمها رجال الكنائس ويدعون إليها المرضى من كل مكان للتشافي على الهواء بلمسة من الرجل المقدس. هذه برامج شهيرة وشعبية بدرجة كبيرة إلى حد أنها دفعت بالمشككين من أمثال الساحر جيمس راندي James Randi إلى تفحصها عن قرب، ثم كشف ادعاءات قسيس مشهور مثل بيني هين Benny Hinn الذي حقق ثروة طائلة من هذا الاستشفاء الإيماني. لكن حتى بعد أن اكتشفت ألاعيب أشهر المعالجين بالإيمان على الهواء، ظلت مجموعات كبيرة من الناس تؤمن بجدوى هذا العلاج التبشيري ولم تتوقف هذه البرامج عن البث في العالم الأول الأمريكي، بل إنها خلقت نجماً شهيراً من مبشر آخر هو القس بيتر بوبف Peter Popoff.

السحر والدين متلازمان في الثقافة الغربية، فالروح هي شاغل الاثنين وادعاء الوصول إليها والتحاور معها من أجل كشف أسرار الوجود وممارسة السلطة على الآخرين أمر مشترك بينهما. في هذه الأجواء يسطع نجم المعالجين بالطاقة والأعشاب والطب البديل والتنويم المغناطيسي والروح الوسيط وغيرهم ممن يدّعون الشفافية الروحية وتحضير الأرواح، مثل الأخت جين التي بدأت علاقتها بالعالم الآخر الذي أكسبها قوتها حين رأت وهي في سن السادسة أرواحاً في خزانة ملابس جدتها ومنحتها تلك القوى العجيبة لمعالجة العديد من الأمراض وعلى الانترنت.

يرتبط مفهوم السحر في الثقافة الغربية القديمة والمعاصرة بعبادة الشيطان ويرى سحرة العصر الحديث أنفسهم كمجددين لممارسات أصولها أوروبية يحركها معتقد ديني قديم، ممارسات تظهر باسم الوثنية الجديدة Neopaganism ولها طوائف مثل الويكا Wicca التي تحيي العبادات الما قبل يهودية وتعتمد العرافة والتنجيم والتكهن في تعاملها مع تابعيها. تدعي هذه الطوائف الاتصال بالقوى الخفية الكامنة وراء الطبيعة وتروج للتداوي بالطب الطبيعي والاستشفاء الروحاني. ولن أغوص كثيراً في الفرق والأديان المغرقة في التخريف، لكنني سأكتفي بالقول إن نظرية المؤامرة التي نسمع عنها كثيراً ليست من اختراع العرب المتأخرين، بل هو نظرية غربية ترى أن هنالك جمعيات سرية Secret society تحرك العالم بانتماءاتها إلى قوى الظلام، أي بعبادتها الشيطان الذي يقدم لأعوانه مساعدات علمية أعانتهم على اختراع كل مظاهر التكنولوجيا الحديثة، فالشيطان الحديث هو من نسل شياطين سليمان مالكي أسرار المعرفة الأساسية. وحين نتطلع على ممارسات هذه المنظمات الحصرية وطقوسها المخيفة نستغرب ونتعجب من انتماءها إلى حضارات متقدمة في عالم أول!!!

يقبع السحر والسحرة في التكوين الأساسي للثقافة الغربية، وقد ظلت ممارسات المشعوذين شائعة في أوروبا في القرنين السادس والسابع عشر إلى درجة مخجلة ومفزعة أدت إلى صدور الحكم البرلماني البريطاني في 1541 القاضي بملاحقة السحرة ولو بشكل اضطهادي، وإقامة محاكم التفتيش الصارمة التي حكمت في معظم الأحيان بحرقهم أحياء في الساحات العامة بدعوى الهرطقة، هي قوانين دولة تعاني من السحر معاناة جعلتها تصدرها تباعاً حتى عام 1951. كانت شبهة ممارسة السحر تحوم حول كل خروج عن المألوف خاصة في مجالات العلم الحديث، من مثل الكيمياء والفيزياء وعلم الفلك التي يطلق عليها اسم السحر الأبيض، فكلها علوم أفرزت نتائج ساحرة غيرت مجرى الحياة كما عرفها الإنسان في عصور الظلام، وعلى ذلك الأساس تم التضييق على العلماء وتعذيبهم، مثل جاليليو Galileo وتورالفو Torralvo، فالعلماء واجهوا تهمة عقد اتفاق لبيع أرواحهم للشيطان الذي سهل لهم اكتشاف علمي قد يبدو أنه في خدمة الإنسان بينما يحمل له في طياته شر مستطير. يقول الفيلسوف الروماني بلايني Pliny أن (السحر يقيد الإنسان بسلاسل ثلاثة، الدين والفيزياء والفلك).

أخيراً، فإن الثقافة الغربية مسحورة بالسحر، منبهرة بالخزعبلات، وهي تفرز كل تلبساتها في آدابها وفنونها وأفلامها ومسلسلاتها، تأمل مغامرات الساحرة Bewitched والمسحور Charmed وهاري بوتر Harry Potter، تأمل ساحرات ماكبث Macbeth وسحر ماري بوبنز Mary Poppins وروائع أدب الطفل من مثل ساحرة أوز The Wizard of Oz وغيرها من حكايات الأدب الشعبي المفعمة بالعجائبية السحرية. منذ وعى الإنسان الأول معنى حياته الفانية تمسك بها أكثر وخاف على زوالها، فأحاط نفسه بأي سياج يحافظ على سلامته، القبر فاغر فمه، والفاني يتلهى عن حتمية السقوط فيه باعتقادات وممارسات لا تخلو منها ثقافة تقدمية كانت أم متخلفة.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712» ثم أرسلها إلى الكود 82244

جدة lamiabaeshen@gmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة