محاولة تصوير الفعل الثقافي على حالتين وهما ما قبل الوعي بالثقافة كطبيعة مرحلة يعيشها المثقف وما بعد الوعي بها وعن سلطتها على النية الإبداعية، هي محاولة تقوم على فرضية اختلاف المقصد الثقافي أو النية في الإبداع بين الحالتين من حيث إن الوعي عمل معرفي يستكشف كل ما يمكنه أن يكشف عنه مما يشكل المرحلة أو تشكله من مشهد أو ظرفية من الشروط التاريخية والحدود المنهجية، مقومات دافعة أو ممتنعات وعجز، حقول نقد أو تحكيم, مشاريع وأحلام وواقع وحقائق، إحصاءات ودراسات، ما منهج ولم يمنهج، خطابها إن كان من خطاب والنتاج والحراك وكل ما يشكل هدفا أو خلفية كل ما سبق الفعل الذي ينويه الفاعل الثقافي وكل ما يمكن أن يريده ويسعى له، كل ما يندرج تحت المرحلة سبقها أو زامنها شكل عاملا بها أو تشكل أثرا عنها، وهو عمل معرفي لا عملية لأن ثمّ أكثر منها لتشكل وعيا، فماذا في هذا الوعي هو فارق بالنية؟ إن القيمة المعرفية الأهم والتي تخرج بنا من هذا الوعي هي التخلص من نوع السلطة الذي يشكله اللاوعي، لأن كل ما في المرحلة من مدرجات يملك سلطة على الفاعل ونيته, وإن التخلص منها يحد أو يقلل من قدرة اللا معروف واللا مفهوم على التسلط حتى وإن لم يدرك (تحديدا) بعد، وإن هذا كله يبقى على مستوى المعرفية الذاتية للفاعل الثقافي، لأن المقصد الثقافي والنية في الإبداع تحتاج إلى مساحة حرة في النظام المعرفي للذات الفاعلة، حرة ما يكفيها عن الوقوع تحت التأثير المباشر لسلطة اللاوعي من خلال الوعي بسلطته، إن النية في الفعل الثقافي لها أن تكون لحظة معرفية حرة من أنظمة التفكير وأنماطه من رصيد التراكم الذاتي والجمعي، لها أن تكون الفصل بمعناه الإنعتاقي كلحظة لا الاستقلالي كنظام، عن كل ما كان وما هو كائن، إن النية هي رأس الحرية الذي لا يتأتى من حرية وسط أو مرحلة يعيشها الفاعل بل من معرفية ذاتية واعية بكل ما حولها ما فيها وما هي ذاهبة إليه، إن اللحظة الحرة عليها أن تتخلص من هاجس الما بعد كما لها أن تتخلص من ضغط الما بل أو الآن، وهذه اللحظة لن تأخذ حريتها إلا من خلال وعي الفاعل بمرحلته الوعي الذي عرفته المحاولة على أنه العمل المعرفي الكلي عليها أي على المرحلة التي يعيشها المثقف، هذا عدا أن الوعي بسلطة اللاوعي لا يشكل وحده المساحة الكافية للحظة حرة للمقصد الثقافي، بل الخروج عن سلطة الوعي يأخذ أهميته بهذه اللحظة أيضا، من حيث نه من المعقول اللامعقول الوقوع تحت سلطة الوعي في المحاولات التي تسعى للخروج عن سلطة اللاوعي، هذا لأن الإرادة كعملية متمة للنية تخضع بطبعها للمدرك أكثر منها لغير المدرك، أي أن الارداة لدى الفاعل تنطلق من فكرة أو قناعة أو هدف يعرفه على غير من أي انفعال يحركه دون أن يدرك ما هو دافعه، والقناعة أو الهدف الذي يعرفه لا علاقة له بالنتيجة من حيث تحقيقها للإبداع لأن الإبداع لا يشترط الانطلاق من دوافع مدركة، إن الخضوع لسلطة الوعي هو اللامعقول الذي يمكنه أن يفسر بوجه ما الخضوع للشروط الثقافية كمنطلق يحكم النية في الفعل لا كمعرفة ينطلق منها وهو ما تناوله البحث في الورقة السابقة، من هنا هل يمكن أن ندرج ما يرفضه أدونيس (من أن يكون للشعر مرجعية ويرى أن الشعر يجب أن يثوّر الشاعر على نفسه وعلى الشعر وأن يبتكر قواعده فيما يبتكر شعره) أو أن الحقول الثقافية الأخرى لا تقاس على الشعر عند التقييم المعرفي، وإن كان أفلا تتسع اللحظة الإبداعية للمقاربة إن لم تجز المقارنة؟ ومن ما يمكن قوله أن ليس الوعي كعمل هو ما يخلق حالتي الما قبل والما بعد بل الاختلاف الذي يشعره الفاعل المثقف على نفسه قبل أن يقطع له الناقد بملاحظة ذلك هو ما يفترض تلك الحالتين، ختاما لهذا الافتراض يجدر الإلماح إلى أن ليس في التركيز على اللحظة الإبداعية ما يعني أن يشكل طريقة للتفكير تصبغها اللحظية أشغالا عن الواقعية منهجا أو حتى طابعا، بل هو تركيز يأخذ دوره في تكثيف القراءة وتفعيل البحث بالنية الإبداعية على أخص الأوجه والمقصد الثقافي على الأعم، إنه هذه الورقة لا تسعى لرفع قيمة اللحظة أو تكديس الشعور بها، بل محاولة فك سلطة اللاوعي بها وعنها قبل أن تشير لمشكلة الخضوع لسلطة الوعي كنتيجة لا معقولة تنتج منها في حالات عديدة، ذلك لأن القيمة ليست بالمبحث فيها بل بإخلاص الفاعل للحظته وإتقانها.

المهام الثقافية أو هم المثقف

تذهب الكثير من المناهج النقدية إلى أهمية التركيز على الفصل بين الموضوع وفاعله، بين الدين مثلا والمتدين أو بين الحكم والحاكم، وهنا ليس البحث في الفرق بين الثقافة والمثقف بل البحث في هذا الفاعل ذاته عن ما بين مهامه وهمه كعامل يؤثر عند أو على النية الإبداعية والمقصد في الثقافة، إن الافتراض يقوم على أن أثر هذا العامل يشكل فارقا من حيث أن المهمة عبارة عن التزام خارجي بينما الهم يبقى التزاما داخليا، وبهذا يكون الالتزام بالمهمة تحت التأثير المباشر للشروط الثقافية للمرحلة من موضع ارتباطه هو كمثقف وارتباط مهمته بها، على حين أن همه يشكل هاجسا فرديا يذهب التزامه به كفاعل إلى الأقصى في أناه وعالمها الداخلي بكل إلحاحها على تحقيق اللحظة، وهو ما يعمل عليه المثقف حيث يفرغ في مقصده عند العمل إلى ما يشغل مستويات نظامه المعرفي المستقلة - إن جازت المفردة - عن ضغط الوسط أو عن مرحلة يعيشها, غير أن أهم ما يمكن إدراجه كفارق هو أن المهمة ستجعل من عمله خصائص معينة مما يشغل نيته بأدائها، أشغالا عن تحقيق الدافع الذي يفترض به أن لا يقع تحت أي سلطة ولو كانت افتراضية ليضمن للحظته حريتها, كما أن تعين الخصائص ستجعل من أدائها عملية خاضعة للتقييم إما من الجهات التي عينتها إن كانت لمهمة وظيفية أو من الجهات التي تتعامل معها عرفا ثقافيا إذا ما كانت مهمة دور يقوم به المثقف بالعرف، ذلك لأن المهام إن لم تتشكل عن دور محدد فهي ستحدد دورا ما، وإن كانت الوظيفة هي الدور الذي يحدد مهام من يشغلها، فإن أدوار أخرى بالعرف الثقافي تشكلت عن مهام محددة يؤديها المثقف عرفيا كذلك, وللمثال فرئاسة المراكز الثقافية لها مهمة الإدارة ودور الرئيس, وهو مثقف يؤدي مهام إدارية، بينما التزامه هو نفسه بترجمة أعمال فلسفية محددة فهي مهمة حددت له دور المثقف التنويري عرفيا، وهو فاعل في كلا الدورين مشغول بالتقييم ولربما التقويم أيضا، وهذا ما يجعل منه حالة انتظار لردة فعل مما يضاعف على لحظته سلطة الزمن، فالجمهور مثلا لا حصرا للمنتظر لن يكون دلالة تؤخذ على النتيجة تقيسها أو تقاس بها، بل سيحضر في معرفية المثقف ما قبل فعله وسيشكل له شكل من الشرط الثقافي الضاغط، بينما في معرفيته كفاعل مشغول بهمه ملتزما به لن يشكل هذا الجمهور حضورا إلا عند النتيجة أي أنه لن يشكل شرطا معرفيا سابقا على المقصد، عدا عن أن سلطة الزمن بهذا ليست حاضرة إلا في رغبته على سبقها، فالنية عند مبادرة الفعل عن هم ستتجه نحو تحقيق نحو وجود، لا نحو نتيجة التقييم أو ملء إطار محدد، ولا يعني هذا أن المهام لن تحمل قيمة في أدائها أو نتيجتها أو أن الهم لن يحتمل التقييم على ما أنتج لأن المفارقة ليست بالنتيجة بين الاثنين حصرا ً بل بين ما يشغل معرفية الفاعل في النية أو المقصد عندما يبادر عمله عن هم أو مهمة، إن هذه التفرقة هي مما يذهب إليه المبحث في كليته من التقديم لما يمكن أن يشكل أثرا أو عاملا عند النية في الثقافة، وهو من محاولات تمكين الوعي من النظام المعرفي في جزيئة محددة وليس من افتراض استحضار كل هذه الفروق أو التعامل معها بشكلها الفاصل، كما إنه ليس من تفعيل النقد في الأعمال الثقافية تشغيل هذه الفروق بطريقة حدية تؤسس لتحكيم لن ينجح بأي حكم لأنه بمجرد تشكيله حكما سيكون قد خسر نجاحه في هدفه الأصل وهو الوعي، إن المباحث الثقافية لها أن تكون كأعمالها محكومة للثقافة لا بها ترجع لها وتنطلق عنها لا منها، إن المثقف ذات فاعله يمكن للوعي بها أن يأخذ من عموم علوم النفس بمختلف مدارسها طريقا له، وعلى المثقف أهمية وجودية بأن ينفتح على ذاته قبل ثقافتها أو قبل نيتها بالثقافة، أن يدرك أن الوعي بذاته كمثقف ليس بانغلاقية المجال (الثقافة) أي أن ذاته سابقة بوجودها على مقصده الثقافي وعلى هوية اكتسبها من مجاله، والفصل بين الموضوع وفاعله أهمية تذهب لها المناهج لكن للوعي بالنية الإبداعية والمقصد الثقافي أدوات ليس مما يسهل منهجتها إن لم يكن ليس من الممكن, وأخلص بإشارة الناقد علي حرب إلى (أن عوائق التجربة الفذة في المجال الفكري ليست في عدم أخذنا شروط التحديث بعين الاعتبار بل لأننا لم نحسن خرق الشروط بخلق وقائع فكرية أو اجتراح أدوات مفهومية) ولآخره فإن هذا المبحث لا يحمل مسبار الذات - العمل أيهما نقرأ.