Culture Magazine Thursday  25/06/2009 G Issue 289
حوار
الخميس 2 ,رجب 1430   العدد  289
يرى أن الجماهيرية ليست معياراً شعرياً
رفعت سلام: من البلاهة إهدار 20 قرناً من الشعر تحت أوهام الحداثة

 

القاهرة – مكتب الجزيرة – أحمد عزمي:

رفعت سلام أحد أهم شعراء جيل السبعينيات المصري، حيث قدم اقتراحات كثيرة لتطوير قصيدة الرواد، وسعى إلى تجاوزها، معتمداً على تقنيات جديدة، ورؤية متعددة العناصر، ومن هذه التقنيات التي يلجأ إليها رفعت سلام المفارقة والاتكاء على ما هو معيشي ويومي، وقد تجلى هذا في دواوينه (وردة الفوضى الجميلة) و(إنها تومئ لي) و(إشراقات رفعت سلام) وغيرها من دواوين. أصدر رفعت سلام أخيراً ديوانه (حجر يطفو على الماء) ويعتمد فيه على ما هو تاريخي ويومي في صيغة تجمع بين كل الفنون، فالديوان به متن وهوامش، وتستعين الهوامش باللغة والرسم، ولا ينكر سلام في كل هذا استفادته من التراث الشعري العربي، وارتباط قصيدته بالواقع الاجتماعي. رفعت سلام معنا في هذا الحوار فإلى التفاصيل...

يلعب الشكل دوراً أسياسياً في بناء بعض التجارب لديك فهل يرجع هذا إلى الرغبة في التجريب؟

- منذ قصائدي الأولى (منية شبين) في العام 1975، والمنشورة في ديواني (وردة الفوضى الجميلة)، وأنا مشغول بقصيدة البنية وتعدد الأصوات والأبعاد في القصيدة وكيفيات تحققها في النص... جاءت تعددية الأصوات في (منية شبين) بصورة عفوية، لكنها - فيما بعد - دفعتني إلى التفكير والتأمل واستقراء القصيدة العربية الحديثة، انطلاقاً من هذه الفكرة، وقد لاحظت أن القصيدة أشبة بمونولوج، يقوم على صوت (الأنا) المنفردة، الذي يحتل القصيدة من البداية إلى الختام.

ويبدو أنني تشبعت بهذه الفكرة، وخاصة أنني - عموماً - مضاد للأحادية، إلى حد أنه أصبح من البديهي أن تتجاوز القصيدة - لحظة الكتابة - أحادية البنية والصوت الشعري منذ الديوان الأول، فالعالم أكثراً اتساعاً من أن تحتويه (أنا) واحدة، أو صوت واحد داخل النص، والإيقاعات الشعرية العربية المختلفة، واللغة يمكن تطويعها، بلا مشاكل، لهذه التعددية، فلم لا؟! وليس عبثاً اختراع شكل (السيمفونية) في الموسيقى أو (رباعية الإسكندرية) لداريل، أو (ميرامار) لنجيب محفوظ، أو المسرح الملحمي لدى (بريخت)... إنني في قراره نفسي، أنفر من فكرة وجود صوت واحد مطلق، في أي مجال إنساني، لقد أودى بنا ذلك، على مدار التاريخ العربي، وصولا إلى الراهن، إلى كوارث تاريخية لا تنتهي؛ لأنه صوت اليقين، والصواب الذي لا يأتيه الباطل، وبالتالي فهو صوت القمع والنفي والإقصاء، فهل أقبل به فيما أكتب؟!. وبطبيعة الحال فإن ذلك يتوافق مع طبعتي النازعة إلى التجريب، فلأجرب، لم لا؟ خصوصاً أنه لا يوجد مانع ثقافي أو أخلاقي للتجريب، إذن فلأجرب، هكذا أقول لنفسي دائماً، وهكذا أجرب، فعل نص شعري جديد، هو بالنسبة لي، تجربة جديدة، بالمعنى الحرفي، أي ينبغي ألا تستنسخ، أو تقيد إنتاج أو تكرر ما سبق، فالجديد لا بد أن يكون جديداً في ذاته، لا في تاريخ كتابته أو نشره.

باعتبارك أحد شعراء الموجة الثالثة في الحداثة الشعرية العربية، وأحد الذين قدموا اقتراحات لتطوير الأداء الشعري.. هل كان لهذا علاقة بما يحدث في المجتمع؟

- قد تكون لذلك علاقة ما، على الأقل من الناحية النظرية، لكنها ستكون نسبية وغير مباشرة، بأوسع معاني الكلمة فيمكن لنا أن نتقصى العلاقة بين ظاهرة صمود (جيل السبعينيات) في مصر، وتجليه في مجلة (إضاءة 77) وما جرى في المجتمع المصري منذ هزيمة 1967، قبلها بعشر سنوات.

لقد انكسر ظهر النظام في هذه الحرب، على الأرض وفي الوعي العام، وتكشفت البنية العامة، التي كانت تبدو منيعة وراسخة، عن خوائها الداخلي، وأفقها المسدود، وإهدارها لحريات الرأي والتعبير، وكان أحمد عبد المعطي حجازي من منشدي ذلك النظام، وراجع قصائد المديح في الطبعة الأولى من ديوانه (مدينة بلا قلب) والتي سيحذفها في الطبعات اللاحقة... هل تمكن في هذه الوضعية بعض جذور ظاهرة السبعينيين وخروجهم على القصيدة الراسخة؟ هل حررتهم نتائج الحرب من القديم السائد شعرياً، المنضبط وفق قواعد ومعايير مسبقة لم يشاركوا في تأسيسها، مثلما فككت الأنظمة والأفكار والأنماط والأشكال والشعارات؟! ربما، ولنتذكر أن بعض هؤلاء الشعراء شاركوا، أو شهدوا على الأقل، مظاهرات الطلبة في الجامعات، التي عرفت بالانتفاضة الطلابية (ديسمبر ويناير 1972) ضد نظام السادات ومماطلاته في خوض حرب التحرير، وهم في بدايات العشرينات من عمرهم، فهل يمكن أن يخضعوا بعد ذلك للنظام الشعري القائم؟

هي الخلخلة التي ضربت الأنظمة السياسية والفكرية والعقلية والثقافية، فضربت - فيما ضربت - النسق الشعري المهيمن، خاصة أنه - وصل إلينا أو ووصلنا إلى الشعر - كان يدور في دائرة مغلقة، بلا أفق مفتوح، فيما كانت الأسئلة الشائكة موجهة إلى كل الأنساق والأفكار بفعل زلزلة الهزيمة، بلا حدود أو محرمات فقد طالت هذه الأسئلة القصيدة، سواء مباشرة أو ضمنياً، ولم يكن للأساتذة الكبار المتربعين على عرش الثقافة - شعراء ونقاداً - أن يقدموا إجابات مغايرة، أو اقتراحات بديلة لمشروعهم الجزئي في تطوير القصيدة، لم يكونوا - بطبيعة الحال - بقادرين على الانقلاب على أنفسهم، ومشروعهم الشعري، بعد عقدين فحسب من صعوده الظافر، وكان الأمر بحاجة إلى جيل آخر من خارج السائد المهيمن، ليطرح أسئلته الخاصة واقتراحاته المغايرة.

رغم ما تقوله فإن جيلك اتهم بالانفصال عن الواقع، والاهتمام باللغة دون رؤية اجتماعية.. كيف ترى ذلك؟

- هو اتهام سطحي، لا يقوم على المعرفة بشعرنا المعاصر، فقد بدأت علاقة الشعر بالواقع والجمهور في التغير منذ الخمسينيات، لا السبعينيات، الأدق أن التغيير بدأ مع مدرسة أبو للو الرومانتيكية، التي جعلت الذات والشعور مركز العالم، لا العالم الخارجي، وبالتالي لا القضايا العامة.

أما شعراء السبعينيات فقد أطاحوا بما تبقى لدى شعراء الخمسينيات والستينيات، من ملامح منبرية خطابية في القصيدة، ومن الطبيعة الاستعمالية لها كأداة في المناسبات العامة، وصولاً إلى قصيدة النثر، التي أعادوا اكتشافها وفرضها على الواقع الأدبي العربي.

فهي ليست تهمة أو نقيصة، هل كان صلاح عبد الصبور وعفيفي مطر شاعرين جماهيريين؟ وقبلهما هل كان على محمود وإبراهيم ناجي الرومانتيكيان كذلك؟ إنه مسار وصيرورة للقصيدة العربية، والجماهيرية ليست في النهاية معياراً شعرياً أو نقدياً بقدر ما هي معيار ديماجوجي، وهي بقايا دعاوى الالتزام والواقعية الاشتراكية.

لكن بقدر ما يتطور أو يتغير الوعي الشعري لدى الشعراء بقدر ما يتخلف وعي الجمهور العام، الذي تسيطر عليه أجهزة إعلام لا تعنيها الثقافة، بل الترفيه السطحي وملء بالغث والتافه، إنها الأجهزة التي جعلت المثل الأعلى العربي هو المطرب والمطربة، ولاعب الكرة والممثل أو الممثلة. هكذا يبقى النموذج الشعري المعاصر، لدى أجهزة الإعلام والتعليم العربية هو أحمد شوقي، حتى الآن، ويبقى الشكل الشعري المثالي هو القصيدة العمودية، فكيف يمكن حل المعادلة؟ وهل يمكن أن نأخذ مثل هذا الاتهام مأخذ الجدية؟

هل استخدامك للجهاز البصري في تجربتك يعود إلى الهروب من المجاز اللغوي أم أنه يرتبط أكثر بتآذر الفنون؟

- لعله يرتبط أكثر بمحاولة توسيع أفق القصيدة، وفتح حدودها المعروفة على غير المعروف، وهو ما دفعني من (دورة الفوضى الجميلة) إلى (إشراقات رفعت سلام) إلى (حجر يطفو على الماء) إلى الخروج على البنية الواحدة المحددة، سواء في النص التفعيلي أو النثري إلى بني متعددة، متفاوتة، متبادلة، وصولا - في العمل الشعري الأخير - إلى الرسم بنفسي في متن العمل وهوامشه في كل صفحة.

وذلك ضد انغلاق النص على شاعره، ضد اقتصار النص على الشعرية التقليدية الرائجة، ضد الأحادية، ولا تعارض في ذلك بين البصري واللغوي، فهما بالنسبة، ليسا طرفين متقابلين، بل متكاملان، يتجادلان فينتجان معاً العمل الإبداعي، فيما لا يمكن في نفس الوقت استبعاد أحدهما والاكتفاء بالآخر، فكل منهما مشروط ومرهون بالآخر، حتى إخراجياً، في طباعة العمل، فلا حذف ولا استبعاد ولا استبدال.

تزاوج بين نمطين من الكتابة: قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر.. هل يرتبط ذلك بدواع ذاتية؟

- على العكس من الغالبية العظمى للشعراء، أرى أن أي شاعر عربي يمتلك ثروة باذخة بلا نظير: 20 قرناً من الشعر الحي، ومن البلاهة إهدار هذه الثروة باسم أي إدعاء حداثوي، أو ما بعده، هي بالفعل كنوز حقيقية، وبلا تقديس أو تقليد، يمكن لكل هذا الشعر أن يكون مصدر ثراء للنص الراهن، فليس ثمة نفى مسبق للسابق الشعري، والحداثة لا تعني الإهدار لهذا، فنصي الشعري يحفل بالراهن والتراثي، لكن التراثي يفقد وظيفته ودوره السابقين، وفي سياقه القديم، ليمارس وظيفته ودوراً مغايرين في السياق الجديد، مرهونين بهذا السياق، وبالرؤية العامة التي تحكم النص كله.

وفي ذلك لست من أنصار الفصل المتعسف بين التفعيلي والنثري في الكتابة الشعرية، فهذا لا يحدث إلا لدينا نحن العرب، فبودلير ورامبو - على سبيل المثال - كانا يكتبان الموزون والنثري في نفس الوقت، وهو التقليد المتواصل حتى الآن في الشعر الفرنسي، فإذا كانت القصيدة التفعيلية قد خبئت كثيراً، بعد انطلاقتها القوية الأولى، فإن ذلك ليس مبرراً لإهدار كل مكتسباتها.

وتتوافق هذه البنية الإيقاعية - النثرية والتفعيلية - مع تعددية الأصوات التي أحاولها دائماً، بما تسمح به من تنوعات وتباينات وتمايزات في البعد الإيقاعي للنص الشعري، فمرة أخرى يبدو أن تكويني الشخصي مضاد للأحادية في جميع تجلياتها.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة