Culture Magazine Thursday  25/06/2009 G Issue 289
سرد
الخميس 2 ,رجب 1430   العدد  289
مدائن
أحمد مطر .. الفتى البصري في شعرية المأتم الدائم
إعداد - عبدالحفيظ الشمري

 

الشاعر العراقي أحمد مطر، ارتحل من قرية تنومة شط العرب، إلى بصرة العراق، ومنها إلى الكويت، فلندن، ليتوه في عواصم أخرى، ومدن كثيرة، موسومة بالغربة، والألم، ليحتمل الشاعر (مطر) غربته، والحنين إلى مدائنه البكر حينما كانت تنضح بالحب، وتنز بالأمل لكثرة ما كانت تأتي الوعود، وتذهب، فهي التي تعاند الحياة القاسية من أجل أن تبقي على الأمل كما يقول هذا الشاعر المسكون بالجنون والحنين إلى الوطن.

الشاعر يؤكد دائماً أن المدن العربية تبقى على هيئة مأتم كبير إلا أن هذه المناسبات الجنائزية الحزينة يراد لروادها ومرتاديها أن يلبسوا ثياب الفرح، ويدعوا السعادة حينما ترقبهم عيون واخزة، ونافذة تريد لهم أن يكونوا على هذا النحو من التحول والتلون البائس.

في تجربة أحمد مطر الشعرية يغيب المكان الواقعي لحكاية الألم الفلسطيني أو لأي مأساة عربية، فلا يمكن لنا أن نجد تجسيداً واضحاً للمدينة التي تشغل باله، إنما هو مهموم دائماً في تفاصيل المأساة التي تسكن المدن، حتى أنك تتعرف على أي مواطن من خلال عنوان مأساته، لا على شارعه أو قريته، أو دكانه.

القرية العراقية يرى فيها الشاعر (مطر) أنها المهد واللحد معاً، فهي التي تحضن ألم الآباء، وبكاء الأمهات، وهي التي تذكر أهلها، بتواريخ ميلادهم الحزين، بل هي من تستقبل أهلها حينما يفارقون الحياة، ويتركون آمالهم، وأحلامهم خلف ظهورهم.

عرف عن الشاعر أحمد مطر رؤيته النقدية الحادة، وتعريته للواقع بشكل لاذع، وبلا مواربة، بل نراه وقد صاغ من خطابه الشعري بياناً لا يقبل الجدل، إلا أنه في قصائده لا يستثني أحداً، بل تجد أنها قد أخذت شكل البيان العام.

فقد تكون إشارات أحمد مطر، ولافتاته، انطلاقة مبكرة للقصائد الانتحارية التي لا تقتل البشر، إنما تفضح الممارسات غير السوية، والتجاوزات الأليمة، والهفوات الخطيرة لحقوق المواطن، وغياب هوية الوطن.

وكأن الشاعر العراقي (مطر) فلسطيني يكتب عن قدسه، وعن الشام وندرة مائه، وعن المغرب وهويته، والجزيرة ورملها ومعاناة أهلها، وعن العالم المعذب في كل مكان من الأرض، حتى أننا لنرى وقد تفاعل حدود الذوبان في قضيتنا الدائمة فلسطين وقدسنا المحتل:

)يا قدس.. يا سيدتي

معذرة فليس لي يدان

وليس لي أسلحة

وليس لي ميدان

كل الذي أملكه لسان.

والنطق يا سيدتي

أسعاره باهضة

والموت بالمجان..)

فالشاعر وإن أعياه البقاء في ريف تنومة، وشط العرب، والبصرة، وهدته الغربة، وضيقت عليه الأنظمة، وحاربتها دار الجباية، وأروقة الولاية، فسيظل وفياً للقضية الأم، مأساة فلسطين وحكاية القدس الأليمة.

فالمأساة التي يعيشها الشاعر أحمد مطر في نأيه الحزين هي حجم تلك الذكرى الأليمة للفواجع غير المعقولة، والكذب غير المبرر، والجنون المتمترس خلف كل قصة حتى أنه لا يكل أو يمل من ذكر تلك الصورة التي كان يراد فيها لأهل المدائن العربية أن تلبس ثياب العرس في مأتمنا لكي نكون هادئين في غفلتنا، طيبين في إغمائنا، غير حالمين في إغفائنا.

تبقى صورة المدن العربية التي ظل الشعراء على نهج مطر ينشدونها معلقة بين أرض لا تقر بطينها الذي خلق البشر منها، ولا تسمح لهم بعبور الأفق الشائك لفرط المحذورات، يعاضده في ذلك الشعور رفيق دربه الفنان ناجي العلي الذي قتل على رصيف الغربة لكي لا يبوح بشهادته على الواقع المأساوي. فقد كان اللقاء الذي جمع (مطر وناجي) أنهما ظلا يفتتحان المشهد العربي البائس بقصيدة انتحارية، ويختتمانه برسم كاريكاتوري ناري حتى بات الأخير على أرصفة الغربة نصف ميت كما يشير في أحد قصائده.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة