Culture Magazine Thursday  26/03/2009 G Issue 276
الملف
الخميس 29 ,ربيع الاول 1430   العدد  276
المتبتل
د. فاطمة الوهيبي

 

الأستاذ الدكتور عبد العزيز المانع علم تصعب الكتابة عنه بالنسبة لي، أما لماذا؟ فلأسباب مختلفة, إذ إنني لم أجلس يومًا مقعد درس للدكتور عبد العزيز بالمعنى المتعارف، لكنني تعلمت منه الكثير، وإن لم يدرسني فعلاً في درس أو محاضرة. هذه الصعوبة تأتي من أنه كان متواريًا عن إدراكي المعرفي المباشر، وفي اللاوعي اندرج ضمنيًا ضمن نخبة من الذين لهم مكانة لدي عبر الشغف بالكتب. فأنا ممن تربطني علاقات قوية بكّتاب عاشوا قبل قرون، وبفلاسفة أو مفكرين معاصرين لا أعرفهم شخصيًا، لكني أتعلم منهم، واستمتع بما يكتبون، وأفيد من تجاربهم العلمية عبر جسور القراءة.

وقد دخل الدكتور المانع في هذا البعد الذي يبدو متواريًا أو شبحيًا في العلاقة الفكرية، وانضوى ضرورة ضمن تلك النخبة، وأدى ذلك أن تكون رؤيتي إليه رؤية عبر المجهر أو عبر ما أسميه الفلترة، وهي مسألة تتعلق بطبيعة ما أسميه الحرم المعرفي والتبتل، الذي يحتاج ممن يدخلونه - وفق معاييري - إلى نوع من الضوء والوضاءة، وهما أمران لا علاقة لهما بأية أيديولوجيات، وإنما يرتبطان بمنظومة من القيم الشخصية التي تنعكس على الأداء العلمي والنتاج المعرفي ألتقطها بحساسية عالية فأتبيّنها فيما أقرأ وأفحص من كتب، وعلى رأس تلك المنظومة (وفق معاييري طبعًا) الدقة والإتقان والخَلْق القائم على الإبداع ومفهوم الحرية المحلق. وكنت، وما زلت، اعتقد أن كل فكر خلاق عليه أن يطير بجناح الدقة والإتقان من جهة، وبجناح الذهن المنفتح، البعيد عن الارتهان لمسلمات أو قواعد حتى لو كانت مسلمات أو قواعد علمية؛ فسمة العلم أنه حر، ويتطور، وغير ثابت.

كان الدكتور المانع واحدًا ممن دخلوا تلك النخبة في مرحلة مبكرة، فقد كنت أقرأ في كتاب (عيار الشعر) لابن طباطبا بتحقيق الدكتور المانع، وأُخِذْتُ بالدقة العلمية الظاهرة التي يلحظها القارئ مع كل إحالة يحيلها المانع في هوامشه إلى المآخذ والاستدراكات على التحقيق العلمي السابق لكتاب (عيار الشعر).

والحق أن السؤال الذي كان يدور في ذهني هو: إذا كان الكتاب محققًا، فما الذي يدفع باحثًا مثل الدكتور المانع لإعادة تحقيقه؟ إنه الصبر والتثبت الذي يأتي من التدقيق فيما يُقرأ وعرضه على ما يقبله العقل من منطق النص واستقامة العبارة. وهذا التثبت يأتي من نزعة علمية عالية الجودة، ومن تبتّل معرفي نادر يبدأ بالشك في صواب ما يُقرأ ويُعرض على محك العلم والخبرة العلمية المقننة. وهكذا عبر هذا السؤال، وعبر ما كان يعرضه الكتاب من أخلاق محققه من أخلاق العلماء وسماتهم التي صارت عملة نادرة أعجبت بهذا القلم، وبما يحركه من شغف وتبتّل معرفي، ورحت أترقب جديد الدكتور المانع وما تخطه يمناه في المخطوطات والتحقيق أو إعادة التحقيق.

قد يكون القارئ أدرك لماذا أسمي الدكتور المانع المتبتّل المتخفي، إنه يتوارى خلف النص الذي يحققه، بدأب العلم وصبر العاشق، وهذا يجعل تلك الوضاءة والنور المعرفي يشعان من خلال النص دون أن يدعي شيئًا ليس فيه. نور لا يتجه الدكتور المانع إليه، ولكنه يصنعه من أجل عشقه المعرفي لا من أجل أن يتلامع هو فيه. هذا التخفي يبدو كذلك في صفة جميلة عرفتها فيه، فيما بعد حين تحدثت إليه، وتعاملت معه أكثر من مرة معه عبر عدد من الأحداث والمواقف، إنها سمة التواضع الظاهرة في شخصيته العلمية، والأبوة الكريمة التي يحيط بها طلابه أو من يتوسم فيهم خيرًا.

التخفي أحد مظاهره التواضع، وأحد مظاهره الدعم الأبوي؛ فمن يمكنه أن يسأل أبًا لماذا يفعل ما يفعل تجاه أبنائه؟ الموقف الأبوي مبرر أصلاً، لذلك لا يوضع تحت الضوء، فهو طبيعي وبديهي، هذه هي المسألة، وهكذا يراها الدكتور المانع حتى مع نفسه، لذلك يُحرج ويخجل وأحيانًا يغضب إن ذكّرته بموقف له فيه أياد بيضاء أو بصمة تُذكر أو تُعد ضمن مناقبه، ولا تملك إزاء هذا الانسراب نحو البعيد، خارج الضوء، وبعيدًا عنه إلا أن تتأمل براعة شخص يتوارى حتى لا تُعد أمامه، أو لا تصل مسامعه، كلمات تذكر جميل أفعاله وإبداع يده!!


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة