Culture Magazine Thursday  28/05/2009 G Issue 285
سرد
الخميس 4 ,جمادى الآخر 1430   العدد  285
مدائن
تركي الحمد في مدن تقبل الجدل ولا تقر بأحلام الفضائل المطلقة

 

إعداد - عبدالحفيظ الشمري

الروائي الدكتور تركي الحمد يعمد في طروحاته الفكرية، والأدبية ممثلة بمشروعه الروائي إلى استبطان ذاكرة المكان القديم.. ذلك المنبت الأليم للكثير من الصور الاجتماعية التي انثالت أمام المتلقي دون أي وسائط، أو روابط، بل تساوقت فضاءات تلك الأمكنة على مدى عقود من التأزيم حتى باتت علامة بارزة، ومميزة في تكويننا الحياتي الذي لم نغادره حتى الآن.

عوالم المدن في أعمال الدكتور تركي الحمد الروائية هي تلك الحواضن المكانية لبوحه، وتجلياته الحكائية، وربما أقواها، وأكثرها حضوراً في الذاكرة هي ثلاثية (أطياف الأزقة المهجورة).. تلك التي انغرس فيها حي (العدامة) في ذهن المتلقي كطاقة بكر لفضاء المكان المنتقى من بين الكثير من المواقع، اتبعها الحمد بشاهد مكاني آخر يتمثل في حي الشميسي، وهو المكان الذي شهد حالة من التكوين الاجتماعي الذي ظل ينافح عن دوره ووجوده الإنساني المجرد، وكذلك حاضن الجزء الثالث من ذلك العمل المتمثل في حي الكارنتينة، حيث أومأ له الكاتب الحمد بالكراديب في تداعيات سفره السردي الأخير.

المكان لدى الحمد ظل يرفض أن يكون بذرة لأحلام الفضيلة، وخيال الطهر المطلق، وأوهام الأنا النرجسية الذي كانت تساق إليه كل الطروحات، إنما صمدت تلك الأحياء، ومن بعدها المدن لكي تكون مخلصة لعفويتها، ولتكوينها الإنساني المألوف، متوائمة مع كل ما تفرزه الذات من نقائص وعيوب بسيطة زرعت فيه منذ أن خلق.

تتواتر في هذا السياق إنثيالات المكان الذي يجده الروائي الحمد ذخيرة مهمة لتكوينه السردي، فشرق الوادي يستحوذ على صورة المكان، ليبني مجد المنابت الأولى لهؤلاء الذين عبروا إلى الذاكرة محملين بوهج البدايات الأليم،.. ذلك الذي نتلقفه بدهشة المكان والزمان الخارج عن نمط المألوف.

ففي تلك الكثبان المترامية للرمل في شرق الوادي تستيقظ حالة الحكاية الشيقة التي نظل في إسارها، حتى تتكشف لنا من خلال هذا الراوي المفوه العديد من الصور، والمشاهد الوجدانية الجديرة بالتأمل والمتابعة.

المدن، والقرى ومن ثم الريف ثالوث مهم في سرد حكاية الإنسان، بل هي حالة من التراسل الوجداني المهم في أعمال الكاتب الحمد، لتظل هذه الأماكن قوية، ومؤثرة في الذات، والذائقة.

فالتدرج المنطقي في مشروع الحمد السردي والفكري، لا يخرج عن هذا التعاطي الممكن لفرضية المكان الذي يثق فيه المجتمع، ويعول عليه تذوقياً وعاطفياً، ليرى الحمد أن هذا التعويل التذوقي بات ضرورة ملحة لتفعيل الأداة الخطابية للمنجز الحكائي الذي يقبل عليه الناس، ويفترضون فيه عادة الصدق، والموضوعية، وقيام الجدل الممكن حول ماهية القضايا التي يصار إليها باعتبارها أهم منجزات الحكاية.

فالمدن، وما تحتويه من أحياء قديمة، وما كان قائماً من قرى، وأودية، وهجر ومواطن بدو، وأمكنة عبرت فيها قصص الحروب والمواقع، وأماكن الماء، وتخوم الأساطير، والكهوف والمغاور التي تحتفظ بالكثير من القصص والحكايات المتواترة عن الإنسان الذي عاش فيها، وسكن حولها، وتفاعل معها، ففي جل هذه الأمكنة تبرز حالة الفن الحكائي الذي برع في عالمنا العربي، ونجح في سبر غور هذه التجربة، وربما زاد ولعنا فيها، ودهشتنا منها كلما قراناها أو سمعنا بعض تفاصيلها وهي تروى بشكل شيق على لسان حكاء مفوه، أو نتجاذبها من خلال تدوين قديم نتذوق فيه عتق الماضي.

روايات الدكتور تركي الحمد استنبطت من دلالة تاريخ الحكاية وأهميتها عالماً من البوح الوجداني الذي انضج الفكرة، وصاغ سياج الزمن، وحرك الأحداث، وأنعش الذاكرة، وحفز الذائقة أن تتقبل الحديث الحاد في صراحته أحياناً حول هذه المدن والأماكن، والنجوع التي تكتنز في تضاعيفها قصة عناء الإنسان في الجزيرة العربية على وجه التحديد.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة