Culture Magazine Thursday  31/12/2009 G Issue 292
فضاءات
الخميس 14 ,محرم 1431   العدد  292
الاستثناء من ومضة وفاء إلى تاريخ إبداع
نورة القحطاني

 

كانت تمر بي مقولة: "مالئ الدنيا وشاغل الناس" من دون تأثير يُذكر إلا استشهاداً على شخصية المتنبي.. ذلك الشاعر العباسي الذي ثارت حوله خصومة بين النقاد في عصره، فانقسموا إلى فريقين بين مؤيد ومعارض، لكن تلك المقولة اختلف تلقيها بعد أن استقبلت كتاب (الاستثناء - غازي القصيبي.. شهادات ودراسات) الذي صدر عن مؤسسة الجزيرة في مجلد ضخم حجماً وقيمة معرفية، فهو بحق إضافة نوعية للمكتبة العربية، ولا ترجع قيمته إلى أن موضوع حديثه كان علماً من أعلام الشعر والأدب فقط، بل لأن هذا الكتاب يعلن منذ عنوانه أنه استثناء في موضوعه، وعمق مباحثه، ولا تملك وأنت تتنقل بين الشهادات والدراسات المتنوعة والمختلفة تميزاً وأسلوباً ولغة إلا أن تستدعي مقولة "مالئ الدنيا وشاغل الناس".. إنما بشكلٍ مختلف هذه المرة.. فلم أقرأ حتى الآن مثل هذا الحشد من القراءات حول شخصية واحدة اتفق الجميع عليها، وإن اختلفوا فكراً وإبداعاً وانتماء، وهنا يبرز السؤال: كيف استطاع هذا الفريق من الشعراء والكُتّاب والنقاد من مختلف البلدان تمثيل هذه الشخصية عبر الكلمة، بل الأهم من ذلك كيف اجتمعوا على تفرده وتميزه؟.. ولم يطل انتظاري للإجابة فقد وجدتها في مقدمة الكتاب التي يفتتحها الدكتور إبراهيم التركي بشهادة تفرض استثناء الشخصية "إنه غازي.. وكفى" ليعقد مع المتلقي عهداً بأن هذا الجهد الرصين لم يكن إلا لأن الشخصية "استثنائية بشمولية جعلتنا نميز فيه الشاعر، والأكاديمي، والقيادي، والروائي، فنجده فيها الرقم الأول والمكان المتصدر".. وهنا جواب الجزء الأول من السؤال السابق الذي يواجه المتلقي، فإذا قرأنا قوله:"الحديث عن غازي يمتد بطول وعمق وارتفاع تجربته الثرية وعمقها وارتفاعها، والمشاركون - في هذا العدد الاستثنائي - لم يدعوا مجالاً لمستزيد..." علمنا أنّ الكتاب يتناول شخصية بحجم عشرات الشخصيات، لذا لن أقدم هنا شهادة في الشخصية الاستثناء فما تركوا شيئاً لنا، إنما سأتحدث عن كتاب هو استثناء على استثناء، حيث كان الوفاء والتعدد والاحتفاء ثيمة القراءات والدراسات حول تجربة القصيبي الشعرية، والروائية، وإسهاماته الأدبية والفكرية، والحديث عن هذا الكتاب يفضي بنا إلى مفارقة تحسب لصالحه، فقد اعتادت الأوساط الثقافية في البلدان العربية عموماً أن تكرّم أدباءها بعد رحيلهم عنا، ولكن الجزيرة تجاوزت هذا الجمود، وخصصت أعداداً من مجلتها الثقافية لتسليط الضوء على شخصيات أدبية وثقافية وفكرية، كان القصيبي أحدها، وهذا الوفاء الاستثنائي يستحق الإشادة بفريق هذا العمل الثقافي الرائد على مستوى الصحافة الثقافية المتخصصة.

ودعوني أذكر لكم بكل صراحة وتجرّد أنّ هذا الكتاب ممتع حقاً، على خلاف ما نعهده في مثل هذه الدراسات الأدبية المتخصصة، ومصدر هذه المتعة يعود إلى تنوعه وشموليته، فأنت تتنقل بين الشهادات والدراسات النقدية والقراءات الانطباعية والأدبية بسلاسة تنساب إلى روحك معها تلك العفوية الصادقة في شهادات تستوقفك فيها لغة الوفاء، ولا تشعر أبداً بالمبالغة الاحتفائية التي عادة ما ترافق مثل هذا النوع من الشهادات، وسيلمس القارئ ذلك في كثير من المواقف التي تصف طبيعة (غازي) وخُلقه وتواضعه وتفانيه في العمل وإخلاصه له، وبعد قراءتي للكثير عنه شعرت أنّ ما كنت أعرفه عن هذه الشخصية قليل جداً مقارنة بما اكتشفته عنه من خلال هذه الشهادات الصادقة، وما كان يميزها أكثر أنها ركزت على الجانب الإنساني الذي يضيء كثيراً من حياة الشخصية، ويساعد حتى في دراسة أدبه وشعره، كما أنّ ترتيب الكتاب ساعد على تحقيق جانب كبير من هذه المتعة، فما أن تفرغ من قراءة الشهادات التي حملت عناوين دالة على جمالية الموهبة لدى غازي، أو نجاحاته، أو غزوه لقلوب من عرفوه، أو مواقفه الأخوية معهم، أو حكاياته وفكاهاته، حتى تجد نفسك متلبساً بالإعجاب ومشدوداً لمتابعة المزيد من القراءات، لتنتقل إلى دراسة جادة وبحث رصين يتناول رواية هنا، وقصيدة هناك، مروراً بكتب الفكر والإدارة والسياسة التي كانت موضع اهتمام الباحثين والنقاد، لتخرج من الكتاب ممتلئ الذهن والروح معاً، وكأن كل دراسة منها تكمل الأخرى، كالحديث عن رواية "العصفورية" التي استحوذت على عدة دراسات نقدية من نقاد وباحثين مختلفي المناهج والمذاهب، ومع ذلك تجد تكاملاً بينها لا تشابهاً أو تكراراً، وهذه مفارقة لا تدع مجالاً للشك في تميّز هذا النص وانفتاحه على التأويل من مداخل متعددة تجعل المتلقي في حالة بحث مستمرة عن خبايا جديدة يكشفها النص في كل قراءة، وجاءت أيضاً رواية "الجنية" و"شقة الحرية" و"حكاية حب" و"سلمى" مجالاً آخر للدراسة والتأويل يلفت نظر القارئ إلى أنه أمام إبداع مختلف جذب كل هذه الأسماء العربية والأجنبية وانتزع منها اعترافاً بالاستثناء، لا أنسى هنا الإشارة إلى نقطة هامة استوقفتني وأنا أقرأ الشهادات، فإن تقرأ شهادة أو دراسة من باحث عربي يتحدث لغتك ويفهم ثقافتك هذا أمر طبيعي تجده مع بروز الكاتب على المستوى العربي والمحلي، لكن أن تقرأ "شهادة بنغالية" وأخرى من "الولايات المتحدة" هنا تقف مشدوهاً أمام شخصية أدبية بقامة وطن! كيف تمكَّن غازي القصيبي من غزو عقول غربية وشرقية؟ إلا إن كان له من اسمه نصيب كما قيل، وحقّ له ذلك فهو استثناء استحق التكريم داخل وطنه وخارجه، فكان خير سفير للأدب السعودي الذي امتد صداه من المحيط إلى المحيط.

إنّ المتتبع لما كتبه النقاد والأدباء عن إبداعه شعراً ونثراً ووضعوه في منزلة يستحقها يلمس اتفاقهم جميعاً على إعجابهم بتميزه، بل إنك في كل قراءة تشدك مقدمة كل واحد منهم، حيث إنّ هذه العبارة تتكرر أمامك في كل مدخل لدراسة جديدة وكاتب مختلف "أديب متعدد مناحي الإنتاج فهو شاعر مكثر، وروائي قاص، وكاتب ناثر، ثم هو باحث في الأدب والفكر حتى إن المرء ليحار في أي جانب من هذه الجوانب يضعه وأي صفة يطلقها عليه".. تقابلك اشتقاقات الحيرة ومصطلحات التعدد والشمولية التي امتاز بها القصيبي في إنتاجه الغزير، ولك أن تقرأ هنا وصفاً آخر له يصب في نفس الوعاء حين يصفه أحد الكتاب بأنه "ظاهرة متداخلة ومتشابكة، وهي ظاهرة ليس من السهل تفكيكها أو ردها إلى عناصرها" ثم بأسلوب آخر تجد تساؤلاً وتعجباً: "أين أضعه في هذه الساحة العربية الشعرية الفسيحة المحتشدة بالغبار وضباب الغيوم الواطئة وألق المطر المفاجئ والنادر؟!".. كل هذا العطاء يؤكد أننا نملك في وطننا شخصية عبرت الحدود بجواز مرور مختلف، أرّخ لها هذا الكتاب ليكون شاهداً له وحاضراً فيه، وسيبقى مرجعاً هاماً للباحثين والدارسين، وسيظل غازي "مربك هذا المفرد المتعدد، من أين تدخل إلى عوالمه؟ وكيف تصنفه؟".. إنه الاستثناء...

جدة

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة