Culture Magazine Thursday  01/07/2010 G Issue 317
فضاءات
الخميس 19 ,رجب 1431   العدد  317
 
رجال من حضرموت(7)
عبد القادر عبد الحي كمال

وعدت في مقالة سابقة -والوعد دين- أن أتناول بالذكر حضرمياً شهماً وجواداً علماً، هو الأشعث بن قيس بن معدي كرب، آخر المتوّجين من ملوك كندة، اسمه معدي كرب، واشتهر باسم الأشعث لأنه كان أشعث الرأس، كان رضي الله عنه شريفاً مطاعاً في قومه، سيّد كندة وأحد أجوادها، يُضرب به المثل في نفاسته فيقال: «أغلى من الأشعث» لأنه فُدي بثلاثة آلاف بعير لمّا أسرته مذحج في حرب بينها وبين كندة، كان رجلاً طوالاً موسوماً بالوسامة، وعندما أملك على أم فروة أخت الصديق رضي الله عنه، أمر غلمانه بنحر وذبح ما وجدوا من البهائم في طرقات المدينة، فارتاع الناس، وجاءوا إلى الأشعث فأشرف عليهم من الدار وقال: أيها الناس إني تزوّجت، ولو كنت ببلادي لأولمت وليمة مثلي، ولكن اقبلوا ما حضر، وكلّ من له شيء فليأت لأخذ ثمنه، فلم يبق في المدينة دار إلا دخلها من اللحم، ولم يُر يوم أشبه بيوم الأضحى من ذلك اليوم، وفي ذلك يقول وبرة بن قيس الخزرجي:

لقد أولم الكندي يوم ملاكه

وليمة حمال لثقل الجرائم

فقل للفتى الكندي إما لقيته

ذهبت بأسنى مجد أولاد آدم

وأما مشاهده رضي الله عنه فقد شهد اليرموك وفيها أصيبت عينه، وكان مع سعد بن أبي وقاص في القادسية وحرب العراق، وشهد المدائن وجلولاء ونهاوند، وكان على ميمنة عليّ رضي الله عنه في موقعة صفّين وهو على راية كندة، وشهد معه وقعة النهروان وغزا أذربيجان وفتحها، وأخباره في الفتوح الإسلامية، وهو من ذوي الرأي والإقدام موصوفاً بالهيبة، وكان عاملا لعثمان رضي الله عنه على أذربيجان، وتزوّج الحسنُ بن عليّ رضي الله عنهما ابنته جعدة، ومن حسن تقبّله وكريم تسامحه أنه يوم صفّين خرج بكتاب الصلح يقرؤه على الناس، فمرّ بطائفة من تميم وفيهم رجل يقال له عروة بن أديّة، فقرأ كتاب الصلح عليهم، فقال عروة تحكمون في أمر الله عز وجل الرجال؟ لا حكم إلا حكم الله وضرب عجز دابة الأشعث فاندفعت به، وغضب لغضب الأشعث قومه ورجال من اليمن، وكادت العصبية أن تقع بين اليمانية والنزارية، فمشى الأحنف بن قيس السعدي ومعقل بن قيس الرياحي ومسعر بن فدك وناس من تميم فاعتذروا للأشعث فقبل وتجاوز وصفح، وفي ذلك يقول شاعر من تميم:

عرو يا عرو كل فتنة قوم

سلفت إنما تكون فتيّة

ثم تنمو ويعظم الخطب فيها

فاحذرنْ غبّ ما فعلتَ عريّة

أعلى الأشعث المعصّب بالتّا

ج نشرت السلاح يا ابن أديّة

إنها فتنة كفتنة ذي العج

ل عُروة العصا والعصيّة

فانظر اليوم ما يقول عليٌّ

واتّبعْه فذاك خير البرية

وروي عنه رضي الله عنه أنه قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كندة، فقلت: يا رسول الله إنّا نزعم إنكم منّا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمّنا ولا نقتفي من أبينا، فقال الأشعث: لا أسمع أحداً نفى قريشا من كنانة إلا جلدته الحد. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «من حلف على يمين صبْرٍ ليقتطع به مال امرئٍ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» فأنزل الله تصديق ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }آل عمران77، فدخل الأشعث بن قيس وقال: ما يحدّثكم أبو عبد الرحمن؟ قلنا: كذا وكذا، قال: فيّ أُنزلت، كان لي بئر في أرض فتداعيتُ مع ابن عم لي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بيّنتك أو يمينه، فقلتُ: إذاً يحلف يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: «من حلف على يمين صبْر يقتطع به مال امرئٍ مسلم وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان».

ورُوي أن الأشعث دخل على عليّ رضي الله عنه فوجده قد أثّر فيه صبره على العبادة ليلاً ونهاراً، فقال: يا أمير المؤمنين إلى كم تصبر على مكايدة هذه الشدّة؟ فما زاد أن قال:

اصبر على مضض الإدلاج في السحر

وفي الرّواح إلى الطاعات والبُكر

لا تضجرنّ ولا يعجزْك مطلبها

فالنّجح يتلف بين العجز والضجر

إني وجدتُ وفي الأيام تجربة

للصبر عاقبة محمودة الأثر

وقلّ من جدّ في أمرٍ يحاوله

واستعمل الصبر إلا فاز بالظفر

قال الأشعث: فحفظتها منه، وألزمتُ نفسي بالصبر في الأمور فوجدتُ بركة في ذلك.

وتُوفّي رضي الله عنه بالكوفة بعد مقتل عليّ رضي الله عنه بأربعين ليلة.

ولا أنسى أن أعتذر للنساء بما اخترته من عنوان، وما تخيّرته من شواهد ذكورية، وما كنت عن ذكر النساء عازفاً ولكنها حالة فُرضت عليّ، ربّما لطبيعة الحضارم المحافظة، فلم أجد لنساء حضرموت -علم الله- تراجم، اللهم إلا ترجمتين قصيرتين لحويلة الرئامية وأم الصريح الكندية أوردهما السيد عبد الله بن محمد السقاف في مؤلفه القيّم تاريخ الشعراء الحضرميين، وأحسب أن الذكورية حجبت وتحجب إبداعات القوارير، وإسهامات الفاضلات وتجليات الحرم مفارس الكرم ومواكب الآمال وكواكب الإقبال.

وأخير حاولت ما وسعتني المحاولة أن أنوب عن رفاقتي -رفاقة الخير- في الإشادة، وليس لي بذلك تجربة ولا عادة، فإن قصّرت -وما أخالني إلا ذلك- فإنما قصّر علمي وقلّة دربتي، وأين لي إطلالة أبي يزن، وتراقص حروفه، وحلاوة أسلوبه، وعذوبة لفظه، وحسن تأتّيه، وجمال إيقاعه، وتناسق عباراته، وسليم توجهه، ووضوح نهجه، تمنّيت لو كنتُ له تلميذاً ولأسلوبه مُريداً، وعلمي أنّ الإبداع موهبة، وعزائي أن أردد دعوة موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم: { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}القصص24.

الطائف
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة