Culture Magazine Thursday  01/07/2010 G Issue 317
فضاءات
الخميس 19 ,رجب 1431   العدد  317
 
إبداع (النص).. ودهاليز (التناص) (1-2)
عمر عبد العزيز المحمود

لا يمكن أن يخفى على القارئ في (المناهج النقدية) والمتأمل في تاريخها وظروف نشأتها وأبرز (أفكارها) و(مبادئها) ملاحظة عددٍ من الأمور التي تشترك فيه؛ الأول: (أحادية الرؤية) والنظرة المتطرفة في التعامل مع (النص)، وقد تحدثتُ عن هذا بالتفصيل في مقالين سابقين، الثاني: تأثير (الخلفية الفكرية) وملابسات العصر الذي نشأت فيه، وهذا أمر طبيعي، الثالث: (ردة الفعل) المتطرفة التي تصدر من المنهج الحالي على المنهج السابق في كثير من (أفكاره) و(تصوراته)، وبالتالي صياغة (التصورات) ووضع (المبادئ) على هذا الأساس.

ولذلك حين أخفقت (المناهج الشكلية) التي كانت (البنيوية) تحمل لواءها في (الممارسة النقدية) التي تقوم بتطبيقها على (الخطاب الأدبي) جاءت مناهج (ما بعد الحداثة) بتصوراتها ومبادئها لتكون (ردة فعل) حملت أعلى درجات (التطرف)، معتقدة أن هذا الأمر هو الذي سيساعد على نجاحها وقبولها.

ومن تلك (المبادئ) التي كانت (البنيوية) تؤمن بها حين تتعامل مع (النص الأدبي): رؤيتها أن لهذا (النص) (بنية) تتجلى في (نظامه) و(علاقات عناصره)، وهي مجموعة من (العلاقات) الدقيقة القائمة بين أجزائه جميعا، وأن (النص) عالم (مغلق) (مستقل) بنفسه، له (وجوده الخاص) و(منطقه) و(نظامه) المعروف والمحدد، وأنه ليس له (وجود) أو (امتداد) خارج (كيانه اللغوي) أو (إحالة) إلى أية (مرجعية).

ولذلك ف(المنهج البنيوي) يفرض على (الناقد) أن يتعامل مع (النص) وفق هذا التصور، وتكون (وظيفته) على هذا الأساس هي (افتراض) وجود هذه (البنية) في (النص) أولاً، ومن ثمَّ (الكشف) عنها و(تحليلها) عن طريق إدراك (العلاقات الداخلية) لها، ومدى درجة (ترابطها)، و(العناصر) التي تسهم في تكوينها، كما لا بد أن يلتزم (الناقد) بهذا (النص) حين بغية (إنتاج الدلالة)، ولذلك يجب ألا ينتظر أية (ملابسات خارجية) أو (عوامل) من غير داخل (النص) تساعده في فهم (معناه) واكتشاف (دلالاته).

وحين ظهرت مناهج (ما بعد الحداثة) ك(التفكيكية) و(التلقي) كان من أول مهامها تفنيد كثير من مبادئ (البنيوية) وإظهار فشلها، وبناء (التصورات) وإنشاء (المبادئ) على أنقاضها، ومن أبرز تلك (المبادئ) التي حاولت هذه النظريات إعلان إخفاقها هي تلك (النظرة البنيوية) للنص التي تحدثتُ عنها آنفا، فإذا كانت هذه الرؤية البنيوية للنص تدل على أن (النص) (متماسك) و(منغلق)، له (بنيته) المتكاملة و(نظامه الخاص)، فإن هذه الرؤية لم تعجب مناهج (ما بعد الحداثة)، ورأت أن (النص) على العكس من ذلك تماما؛ ولذا فقد كانت أول مهمة قاموا بإعلانها وتطبيقها هي محاولة زعزعة فكرة (البنية الثابتة)، وذلك بالكشف عن طبيعة (التناقض المعرفي) بين (النص) و(الإساءات الضرورية) التي تحدث في (قراءاته)، وبالتالي فإنَّ (النص) لديهم (مفتوح) و(لا نهائي) اعتماداً على ما يرون من (الصراعات) (غير المنتهية)، و(الدلالة المراوغة)، و(التفسير اللانهائي)، الأمر الذي أدى بهم إلى القول بأن عملية (فهم القصيدة) عملية (مؤقتة) لها تاريخها الخاص (المراوغ)، وأنَّ هذا (الفهم) قد يتحقق في زمن ما للمتلقي وقد لا يتحقق!

إنَّ هذه الرؤية وتلك الطريقة في التعامل مع (النص) هي التي جعلت أصحاب هذه النظريات يتخذون هذا الموقف من (المعنى)، وذلك حين رأوا أنَّ (المعنى) في (النص) (غير نهائي)، لأنَّ كل (قراءة) ستكون (إساءة قراءة)، وأنَّ كل (قراءة) ستظل (صحيحة) إلى أن (تفكك) (القراءة) نفسها بمجيء (قراءة) أخرى (تفككها) لتصبح (إساءة قراءة)، بينما كان (البنيويون) يرون أن (الدلالة) في (الخطاب الأدبي) (متعددة) ما دام هذا (الخطاب) يسمح بهذا (التعدد) وتلك (التفسيرات)، لكن الأمر الذي تؤكد عليه (البنيوية) في هذا السياق هو أن هذا (التعدد) في (التأويل) لا بد أن يكون له أساس من (داخل النص)، أي يجب أن يكون (التعويل) على (لغة النص) هو الذي يسمح بهذه (التفسيرات)، حيث يمتنع كل (تفسير) لا يعتمد على هذا (التعويل).

ولتحقيق هذه الرؤية لدى مناهج (ما بعد الحداثة) -تلك التي ترى أنَّ النص غير (متماسك) ولا (مغلق) كما يزعم (البنيويون)- كان لا بد من تبني (استراتيجية) تخدم هذه الرؤية، وتفعِّل هذه الوظيفة لدى (النقاد) حين (الممارسة النقدية)، ومن هنا ظهرت استراتيجية (التناص) Intertextuality التي ترى أن أي (خطاب أدبي) أو (نص إبداعي) يقوم بإنشائه مؤلف ما، لا يمكن أن يفهمه (الناقد) أو (القارئ) أو (المتلقي) إلا حين يعود إلى مجموعة كبيرة من (النصوص) التي سبقته، بحيث يكون النصُّ المتناصُّ خلاصته نصوص تنمي الحدود بينها، ويتم صياغتها بشكل جديد، فهو علاقة (تفاعل) بين (نصوص) سالفة أو معاصرة ونصٍّ ماثل، أو هو (تعالق) (نصوص) مع (نص).

ولذلك نجد ناقداً كبيراً ك Todorov (تودوروف) يقول: (إن كلّ نص هو امتصاص وتحويل لكثير من النصوص، والنصُّ الجديد هو إعادة إنتاج لنصوص وأشلاء نصوص معروفة، سابقة أو معاصرة، قابعة في الوعي واللاوعي الفردي والجماعي، إن علاقة النص بما سبقه تضاعف العلاقة بين الكاتب والقارئ بحيث يهتم القارئ بالحوار الذي بدأه المؤلف مع أعمال معاصريه أو سابقيه، وعندما يبدو صوت المؤلف المصدر الوحيد لما يقوله فإن النص ينتصر، فلم يبق من النص السابق إلا المادة، وغاب الأصل الذي لا يدركه إلا ذوو الخبرة والمران في قراءة النصوص).

الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة