Culture Magazine Thursday  02/12/2010 G Issue 323
فضاءات
الخميس 26 ,ذو الحجة 1431   العدد  323
 
لُغَةُ النَّقد.. بين (العَقَنْقَل) و(العَلْطَبِيس) 1- 2
عمر بن عبد العزيز المحمود

تحتل (الممارسة النقدية) موقعاً مهماً بالنسبة (للقارئ/ المتلقي) بشكل خاص، بوصفها عاملاً من أبرز العوامل المؤدية إلى الوصول لفهم (واضح) و(ميسَّر) للمعنى - أو المعاني المحتملة - التي يمكن أن يحملها (النص الأدبي) الذي يخضع لتلك (الممارسة).

ولا ريب أن (المتلقي) الذي يستقبل (العمل الأدبي) يتوقع من هذه (الممارسة النقدية) أن تكشف له كثيراً من الجوانب (الرؤيوية) التي ربما لا تستطيع (الثقافة المعرفية) للقارئ أن تساعده في إماطة اللثام عنها.

ولذلك فإنَّ من البدهيات المسلمة أن يكون مستوى (القراءة النقدية) التي تتعامل مع نص ما تنماز عنه بدرجة أعلى على الأقل من (الوضوح)؛ لأن (الوظيفة الرئيسة) لتلك (القراءة) تقديم (الدلالة) التي يحملها (العمل الأدبي) من خلال (تفكيك) (الشفرات المفترضة)، والبحث عن (الدلالات الخفية)، ومحاولة الكشف عن (المعاني الماورائية) التي يقصد (المبدع) أو لا يقصد إيداعها في كثير من فضاءات (النص) الذي يقوم بإنشائه، وما لم تستطع تلك (القراءة) أن تقدم للمتلقي (التفسير) الذي يجلي (الأبعاد الرؤيوية) و(الجوانب الخفية) التي لا تتبدى له من خلال (القراءة الأولية)، فإنَّ تلك (الممارسة النقدية) تمسي خطوطاً في الماء.

غير أنَّ من يطالع (المشهد النقدي الحديث)، وتتهيأ له الفرصة لقراءة (اللغة) التي تكتب بها كثير من (الممارسات النقدية)، سيُصدم بما سيلاقيه آنذاك، إذ إنَّ (اللغة) التي تُقدَّم بواسطتها (القراءة النقدية) (للنص الإبداعي) تتلبس ب(الغموض الشديد)، وتتسم ب(التعقيد العقيم)، وتتبرأ من أي معنى (للوضوح) أو (السهولة)، وتجد (المتلقي) المسكين يرهق نفسه ويجهد فكره في محاولة (استيعاب) شيء من (عملية التفسير) التي يفزع إليها حين تتزاحم لديه (الإشكاليات) التي تحيط ب(النص الإبداعي)، ويشتد مستوى (الضبابية) الذي يلف أجزاءه ويتراكم حوله، والمصيبة أنه بعد كل هذا لا يكاد يخرج بشيء، بل إنَّ (التعقيد) يزيد، و(الغموض) يتعاظم، ويصبح حاله كحال المستجير من الرمضاء بالنار، فلا هو استفاد، ولا هو استمتع، ولم يجنِ غير ضياعٍ للوقت والجهد، في (الوصول) إلى (اللاوصول).

والحق أنَّ (الغموض) المبالغ فيه الذي يسود (القراءات النقدية الحديثة) (للنصوص الإبداعية) قد أضحى (ظاهرة) لا يمكن أن تخفى على من له أدنى اطلاع على (المشهد النقدي)، بل أصبح ذلك (الغموض) أصلاً (للممارسة النقدية)، وأساساً لتقديمها، بل إنه تجاوز ذلك ليكاد يكون وكأنه من (الشروط) المفروضة على كل من أراد أن يفسر (عملا أدبيا) ويحلق في فضاءاته.

لقد أصبحت (القراءات النقدية الحديثة) مستودعاً للعديد من (الألفاظ الغامضة)، و(المفردات الغريبة)، و(الكلمات) التي لم يسمع بها عربي، ومكاناً للكثير من (الأساليب المعقدة)، و(التراكيب) التي ما سمع بها السابقون ولا اللاحقون، بل إنَّ الأمر تجاوز ذلك إلى أن تكون (الممارسات النقدية) ساحات واسعة للتنافس في (ابتكار) تلك (الألفاظ) و(الأساليب)، ومكاناً أمثل لعرض آخر صور (الهذيان) وأحدث مشاهد (السفسطة) التي يزعم أصحابها أنهم يسلكون الطريق الصحيح والسبيل (الفني) و(العلمي) لتقديم (تفسيرات) تعين على إدراك (الدلالات المختبئة) وراء (النص الإبداعي)، ومن دونها لا يمكن (للمتلقي) أن يفهم المراد منه.

إنَّ (اللغة النقدية) التي يتم بواسطتها (إيصال) تفسير (النص الإبداعي) إلى (القارئ)، ويتم عن طريقها (التواصل) بين (المبدع) و(المتلقي) قد أضحت في (النقد الحديث) مجموعة من (الطلاسم) و(الخزعبلات) التي يعجز الكاهن عن فكها، والساحر عن تأليفها، ولو كان المقام يتسع لذكرت العديد من (النماذج) التي تكشف (للقارئ) عن (ماهية) تلك (اللغة)، و(الألفاظ) التي تكونها، و(الأساليب) التي تتألف منها، حتى يعي فعلاً (الغموض) الذي أقصده، و(التعقيد) الذي أعنيه.

لقد تحولت هذه (الممارسات النقدية) عن وظيفتها الرئيسة التي تركز على تفسير (النص الأدبي) وتقديم (الدلالات المختبئة) التي يحملها إلى (القارئ/المتلقي)، وتفسير (الصور الفنية) و(المعاني الخفية)، وعرض كل ذلك ب(أسلوب سهل) و(ألفاظ واضحة)، يمكن من خلالها إيصال (فكرة) النص و(دلالاته) و(فك شفراته) للقارئ الذي يتعامل مع هذا (النص الإبداعي)، ويقع اختياره عليه للغوص في أعماقه وسبر أغواره.

ولاشك أنَّ (الدرجات المعرفية) للمتلقين تختلف، و(المستويات الثقافية) لهم تتفاوت، وقد يظن البعض أنَّ الأمر على هذا الأساس سيكون صعباً؛ لأنَّ الحكم على (اللغة النقدية) ب(الغموض) في ظل هذه الرؤية سيكون (متفاوتاً) من (قارئ) لآخر، وبالتالي ربما كانت (الإشكالية) ليست في لغة (القراءة النقدية)، وإنما في (المتلقي) نفسه الذي لم يستطع أن يصل إلى (مستوى القراءة)؛ لأنه لم يمتلك الأدوات (المعرفية) و(الثقافية) الكافية التي تؤهله لاستيعاب تلك ( القراءة)، وبالتالي خروج (اللغة النقدية) بريئة من هذا (الغموض) الذي نتهمها به هنا، وحصولها على (صك البراءة) من (التعقيد) و(الإبهام) الذي يردد حولها.

والحقيقة أن هذه (الإشكالية) ربما تعرض في حالة كنا نتحدث (الغموض العادي)، و(الإبهام النسبي) الذي يمكن أن (يتجلى) بامتلاك الأدوات (المعرفية) و(الثقافية) اللازمة، و(ينكشف) بزيادة (التأمل) و(التدبر) لهذه (القراءة)، ومحاولة إجهاد الفكر قليلا لاستيعاب المقصود منها، ولكننا نتحدث هنا عن (الغموض) الذي يصل إلى (أعلى درجاته)، و(الإبهام) الذي يبلغ (أقصى غاياته)، حيث لا يمكن حينها فك (رموزها) و(طلاسمها) - إن افترضنا وجود شيء وراءها - مهما وصل (القارئ) إلى درجة عالية من العلم والمعرفة، ومهما بلغ مرتبة مرتفعة من (الثقافة اللغوية) و(الملكة النقدية) و(الأدوات الفنية).

وإذا تجاوزنا هذا (العرض التحليلي) و(الوصف التشخيصي) لهذه (الظاهرة) إلى محاولة البحث عن (الأسباب الحقيقية) وراءها، فإنني أرى أنه من الواجب أن نعود إلى الوراء قليلا لنكشف عن (الخلفية الفكرية) التي تتكئ عليها بعض (المناهج النقدية الحديثة)، التي تأثر بها أصحاب هذه الأقلام التي أفرطت في (الغرابة)، ووصلت إلى الحد الأقصى في (التعقيد) و(الإبهام)، واعتمدت عليها في (ممارساتها النقدية)، أما تفصيل ذلك، فهو موضوع حديثنا القادم بإذن المولى عز وجل.

Omar1401@gmail.com الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة