Culture Magazine Thursday  02/12/2010 G Issue 323
فضاءات
الخميس 26 ,ذو الحجة 1431   العدد  323
 
من التطرف الخارج عن الإسلام إلى التطرف المنتهي بنقطة
نقطة ماكرة تختطف الحاكمية على التطرف من النص إلى الذوق
محمد عبدالله الهويمل

استفتح مهتدياً بمقولة نافذة للراحل عبد الوهاب المسيري مفادها أن الحداثة تجاهد لإحلال الذوق محل الشريعة. والمسيري هو ابن هذا الخطاب الحداثي والليبرالي لاحقاً وضالع في لغته وأسرار بيانه وجوانب إعجازه وكل تكلفاته وانفعالاته وافتعالاته. والحديث عن اللغة المؤدلجة عموماً يفتح الشهية والقريحة للتأمل دون أدنى حاجة للتجسس؛ فهي وإن كانت رمادية تخلط طحين البياض والسواد إلا أن الشفافية الحاذقة تلمس بالأصبع الجاف بقع النعومة وثقوب العيب، وهذا ما أستشفه جلياً في استخدام بعض التراكيب الصناعية في كتابة ما، في سبيل إيقاع أثر في لا وعي القارئ ينتهي إلى اشتباك أو فض اشتباك بين متلازمين. وتلعب علامات الترقيم في هذا المقام دوراً فاعلاً في تأكيد تلازم أو عزل ناجح بين متكاملين. والمعنيون بهذه الحساسية اللغوية وهذا الفرع تحديداً يستحضرن الآية الكريمة (ويل للمصلين) والوقوف عندها؛ ما يستدعي تساؤلاً مجنوناً بشأن عذاب من يصلي دون مراعاة لجريمة تزوير لغوية فادحة حاقت بهذا التركيب أو ذاك ودغدغت هامشاً عقلياً غافلاً تلقى المفاد الجديد ودمجه في بدهياته ليستقر عنصراً مؤسساً لتصوره وحكمه وذوقه باختلال تركيب مفتعل أو نقطة ماكرة اختطفت مكان فاصلة. والأقل قدرة على الحضور الفاعل في الجدل كثيراً ما يلجأ إلى هذه التعسفات وإثارة العشوائيات اللغوية. في هذا المقام يورد مؤرخو الأدب أن الشاعر أبا نواس نُصح بالتوجه للصلاة وترك الخمر فرد بقوله:

ما قال ربك ويلٌ لأولي شربوا

لكنه قال: ويلٌ للمصلينا

وإن كان هذا الشاهد عابثاً وفكاهياً وحسب إلا أنه يشي بردة فعل صادقة في الدفاع عن الموقف برشوة اللغة لتفقد شخصيتها من أجل انتهازية طرف مخذول في جدل. أما في جدلنا السعودي فمنذ بروز قاموس المواجهة بين أطراف حدّيين كان لا بد من انتهازية؛ فالحرب لا أخلاق لها كما يُقال؛ إذ إن المباشر اللغوي أخلاقي نزيه بطبعه يمارس دفاعاً وهجوماً نظامياً دون امتهان لكرامة اللغة ومقاصدها في تبليغ الحجة.

ساد الحديث عن التطرف والعنف في السعودية وغيرها في صحافتنا وإعلامنا، وكان على نحو مرتب بعض الشيء تقتضيه أي بداية ذكية، فكان التطرف والعنف فعلين سلبيين يحكم عليهما سياسي وديني واجتماعي، ويجمعون على أنهما تمرد شيطاني على نص إلهي. والقناعة العامة أن الشيطان الذي تمرد على الله في عالمه ها هو يتمرد عليه في نصه. واتفق السعوديون على هذه الفطرية التلقائية في تعريف التطرف وتصنيفه، ولم يكن الخطاب الليبرالي على مبعدة منهم تمثلاً أو تمثيلاً لهذه التلقائية والشعبية في رفض التطرف، فكانت اللغة إذ ذاك لا تتجاوز تركيب (التطرف عن الإسلام) و(التطرف عن الدين) و(التطرف الديني).. أي أن الدين والنص حاكمان على ماهية العنف والتطرف بل الدين ذاته يحدد من يخرج عن حدوده بدقة السنتيتمرات، وأوكل هذا الأمر طواعية لعلماء الشريعة فخاضوا بكثافة في التحذير من التطرف عن الدين، ودعوا إلى السلم الاجتماعي والاعتصام بالوحدة السعودية ضده، وحقق هذا التكامل نجاحاً، وتعززت علاقة الجهات الأمنية بالجهات الشرعية، وتضعف الثقة والتكامل بينهما.

ما سلف يفضي إلى أن الثلاثي السعودي (سياسي, ديني, اجتماعي) أجمعوا على هذه الحاكمية، وكان هذا إجماع أقصى الصوت الليبرالي الذي ساهم في مكافحة التطرف دون حسم واضح بشأن هذه الحاكمية أو في ائتلاف مراوغ مع هذا الثلاثي ليدمج نفسه في هذا النجاح، لكن سرعان ما شعر الليبراليون بأنهم خارج المقاومة السعودية، سيما بعد بروز مؤشر جديد على أنهم فقدوا الريادة أو الحضور، وتعزز هذا المؤشر في المناصحة أو المناظرة التلفزيونية التي جمعت الشيخ عائض القرني بأحد المتهمين بالتطرف والدعوة للعنف، فكانت ردة فعلهم بالغة الحدة، أخذت مداها في المساحات الحرة في الإنترنت، ارتفعت إلى حد المفاصلة القاطعة اتهمت الشيخ القرني بأنه هو من يجب أن يُحشر في كرسي الاعتراف. وحدث انقلاب تدريجي في التعامل مع اللغة وعلامات الترقيم، وسعت رقعة مواجهة الليبرالي ضد الصحوي أو الشرعي باستثمار انتهازي لمفردات وأدوات فاعلة في متلقٍ ربما يبحث تجديد على أي صعيد. ومن جملة المشروع الجديد في استثمار الأدوات استخدام النقطة الفاصلة بين متعاطفين أو صفة وموصوف أو طرفين متكاملين عضوياً، وهذا ليس من قبيل الاختصار كالاكتفاء ب(قرآن) بدلاً من (قرآن كريم)؛ فليس ثمة دلالة هنا إلا الإيجاز المحض، ونحو هذا كثير يضيق المقام عنه، غير أن الحالة الليبرالية لا تعمد للإيجاز؛ إذ هي في مجملها إطنابية وثرثارة في توجيه التهم حدّ الملل واستنساخ الملل, واتجهت في إيجازاتها التدريجية في نزع الحاكمية من (التطرف عن الإسلام) إلى (التطرف الديني) والاكتفاء ب (التطرف) المنتهي بنقطة لا تشي إلا بكنس أي خلل طبيعي لحقيقة المفردة ووسمها بميسم جديد حُرّ يحقق نجاحه بكثرة استخدامها معزولة عن أي تكامل مع مؤثر لغوى آخر، واطّرد هذا مؤخراً على تصنيفهم الشفهي عبر الفضائيات؛ فالتطرف لم يعد محكوماً بالمصنف النصوصي المقدس بل بقوى طبيعية خارقة وجبارة تتمثل في الموقف والحالة الخاصة والشفافة تجاه الصواب والخطأ أو ما يُعرف بالذوق. وهو إن نجح فسيمثل شريعة متكاملة كما ألمح إليها الراحل المسيري؛ وعليه فاللغة أدت دورها في إحالة الحاكمية بنقطة أو عبارة مراوغة, أخذت مساحة زمنية ودأباً مثابراً وحققت هدفها عند شريحة ضيقة مستهدفة، وامتد النجاح إلى الاحتكام إلى الذوق وردة الفعل الذاتية في فرز التطرف في شتى ضروب العلاقات لتتدخل النقطة الماكرة في حسم الصواب والخطأ والجائز والممنوع والممكن والمستحيل منتصبة خلفها وإغلاق أي هامش لتدخلات حاكمة أو رقيبة على مطلقاتها، وهذه هي النقطة الذكية بخلاف النقطة الطائشة الغبية المعربدة التي تم تجنيدها في اللغة الاتهامية ضد الآخر الديني بدون مكر أو دهاء؛ إذ من السهل فضحها كالنقطة التي جندت في التشهير بالداعية يوسف الأحمد عندما دعا إلى بناء الحرم والشيخ البراك بشأن الاختلاط والألباني في جواز كشف الوجه فرُتبت النقط الليبرالية كالتالي: (الأحمد يدعو إلى هدم الحرم), (البراك يفتي بكفر من يجيز الاختلاط), (الألباني يجيز كشف وجه المرأة) فكانت ردة الفعل الشرعية حاضرة ومستنكرة هذا التنقيط المخالف لأنظمة المرور.

أملي أن يدخل الليبراليون الجدل بشأن حاكمية الدين في الحكم على التطرف الديني دون هذه التحايلات المكشوفة؛ فهذا اللون من الجدل سيثري جوانب الفهم لدى الطرفين وسيعزز الثقة وسيقطع دابر التهم المتبادلة بالخداع ورشوة علامات الترقيم.

Hm32@hotmail.com الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة