Culture Magazine Thursday  03/06/2010 G Issue 313
أوراق
الخميس 20 ,جمادى الآخر 1431   العدد  313
 
رجال من حضرموت (4)
عبدالقادر بن عبدالحي كمال

أوصى قيس بن معدي كرب الكندي بنيه فقال: «عليكم بهذا المال فاطلبوه أحسن الطلب، واصرفوه في أحسن مذهب، صِلوا به الأرحام، واصطفوا به الأقوام، واجعلوه جُنّة لأعراضكم يحسن في الدُّنيا مقالكم، فإن بذله كمالُ الشرف وثباتُ المروءة، حتى أنّه ليسوِّد غيرَ السّيّد، ويقوّي غيرَ الأيّد، حتى يكونَ في أنفُس الناس نبيهاً، وفي أعينهم مهيباً، ومن جَمع مالاً فلم يصل رحماً ولم يعطِ سائلاً بحث الناس في أصله، فإن كان مدخولاً هتكوه، وإن كان صحيحاً نسبوه إما إلى عرض أو إلى عرق لئيم حتى يهجّنوه». أحسب أن الإخوة الحضارم اقتفوا هذه النّصيحة لجدِّهم الكندي؛ فطلبوا المال أحسن طلب، وصرفوه في أغراضه الخيّرة، فكسبوا الثّناء واستأهلوا الحمد. وقيس بن معدي كرب ملك كندة وصاحب مرباع حضرموت هو جدُّ عالمِ العرب وفيلسوفها أبي يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن الأشعث بن قيس بن معدي كرب. وجدُّ قيس هو معاوية الأكرمين، عُرف بذلك لأنه ليس في آبائه إلا ملك أو رئيس.

كان أبو يوسف يعقوب بن إسحاق فاضل دهره وواحد عصره في معرفة العلوم القديمة بأسرها، سمّي بفيلسوف العرب، ويعرف عند الغربيين باسم «ALKINDUS»، وُلِد بالكوفة، وكان والده أميراً عليها، حفظ القرآن وكثيراً من الأحاديث بالكوفة في سنٍّ لم تتجاوز الخامسة عشرة، ثم نزح إلى البصرة فتعلم بها علم الكلام، وأتمّ تحصيله العلميّ في بغداد، وكانت بغداد في ذلك العصر منارة علم، وفنار معرفة، فدرس اللغتين السريانية واليونانية، وصار صاحب مدرسة للترجمة، لا تغيّر الفكرة المترجمة ولكن تصاغ بأسلوب يسهّل الفهم ويجرّدها من الرتابة والركاكة، طارت شهرته وهو في سنّ الخامسة والعشرين، عاصر المأمون والمعتصم والمتوكل، وبلغ منزلة عالية. أدرك أبو يوسف الكندي ما للرياضيات من أهمية في العلوم؛ فوضع المنهج الذي يؤسّس لاستخدام الرياضيات في كثير من العلوم، وهو أول من وصف مبادئ ما يعرف بالنظرية النسبية، ففيما اعتبر عالما الميكانيك «غاليليو» و»نيوتن» الوقت والفراغ والحركة والأجسام قيماً مطلقة، جاء أبو يوسف الكندي وقال إنّ تلك القيم نسبيّة لبعضها البعض كما هي نسبيّة لمشاهديها، وهو عالِم موسوعيٌّ، يُعَدُّ من الاثني عشر عبقرياً الذين ظهروا في العالم، ويُعِدُّه بعض المؤرّخين واحداً من ثمانية أئمّة لعلوم الفلك في القرون الوسطى؛ لمساهمته في تطوير المرصد الفلكي في بغداد، وذكر أبو يوسف أنّ الحِزَم الضوئية تخرج من العين إلى الجسم المنظور وتكون على هيئة مخروط قمّته بؤبؤ العين وقاعدته ما تراه من مساحة شاسعة في مكان معين، وقد صحّح الحسن بن الهيثم هذه النظرية فقال: إنّ العين تتأثر بالضوء الذي ينعكس من الأجسام إلى العين، فلو كان الضوء يصدر من العين لتمكنّا من الرؤية في الظلام.

ألّف أبو يوسف الكندي - رحمه الله - وشرح كُتُباً كثيرة تناولت مواضيع مختلفة في الفلسفة والحساب والطب والفلك والمدّ والجَزر والمنطق والفيزياء وعلم المعادن والهندسة والموسيقى، راقب أوضاع النجوم والكواكب - خاصة الشمس والقمر - بالنسبة إلى الأرض وما لها من تأثير طبيعيّ وما ينشأ عنها من ظواهر، وتتجلّى إسهاماته في الطبّ في محاولته تحديد مقادير الأدوية على أسس رياضية، مؤلّفاته جمّة، ورسائله عديدة، وإسهاماته في مختلف العلوم كثيرة. وله في الشعر باع، ففي كتاب الحكم والأمثال للحسن بن عبدالله العسكري شعر نسبه لأبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي:

أناف الذّنابي على الأرؤسِ

فغمِّضْ جفونك أو نكِّسِ

وضائلْ سوادك واقبض يديك

وفي قعر بيتك فاستحلسِ

وعند مليكك فابغ العلوَّ

وبالوحدة اليوم فاستأنسِ

فإنّ الغِنى في قلوب الرِّجال

وإنّ التعزُّز بالأنفسِ

وكائنْ ترى من أخي عُسرةٍ

غنيٍّ وذي ثروة مفلسِ

ومن قائم شخصه ميّتٌ

على أنه بعدُ لم يرمسِ

صدقتَ أبا يوسف، كم من غنيٍّ ولكنه في حقيقة الأمر مفلس.

أتساءل: كيف برع العرب الأقدمون في العلوم والصناعات والطبّ والرياضيات وعلم النجوم والفلك والفلسفة وتخلَّفنا نحن؟ هل خبَتْ فينا أنوار النّباغة وقُوِّض بنيان المعرفة والتّحصيل؟ هل ذَوَى الجدُّ وكسدت المعرفة؟ أين ما كنّا نشتاره من أريٍّ (1) شهيٍّ وأريجٍ نديٍّ في العلوم والمعارف؟ فإليكِ يا أُمّة القرآن يساق الحديث بأن الخيريّة التي وصف الله بها عباده المؤمنين أمانةٌ في الأعناق توجب علينا أن نعلي البنيان ونعلو بالأوطان علماً وأدباً وفكراً وثقافة ومعرفة، ففي ذلك عزّتنا وصلاح أمرنا، ولكُلٍّ وجهةٌ هو مولّيها فاستبقوا الخيرات.

***

وللحديث بقيّة إن شاء الله.

(1) أريّ: أي عسل

الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة