Culture Magazine Thursday  03/06/2010 G Issue 313
فضاءات
الخميس 20 ,جمادى الآخر 1431   العدد  313
 
«أمام مرآة العلي»
صراع القرين (الشعر في الشعر)
علي الدميني

« أين أنت؟

منذ نسر لبيد تهجيت خطوك فوق الصخور

وفوق المياه،

....

بأي الكهوف تناءيت؟

........

هل يسمونك الشعر؟

كنتَ صديقاً لنافورةٍ تتشاهق

في القلب حتى السماء

لماذا تركت شرايينها دون ماء؟»

(محمد العلي – الجسر الغائب- الديوان ص 127).

هذا النص الذي أسماه» العلي» « الجسر الغائب» يمكن أن يكون أحد النماذج الأشد سطوعاً في التعبير عن طقوس «الحالة الشعرية « التي يعانيها ويستمتع بها ويبحث عنها الشاعر حتى في داخل النص، لما تختزنه من لحظات الإلهام، والاقتراب من المطلق وملامسة بكارة الأشياء والكلمات، من أجل تحقيق حريته في التعبير و إنشاء الجديد المنفتح على كل الاحتمالات، متحرراً من سطوة النموذج والذات والآخر، بمعناها الشامل.

وفي هذا السياق يمكننا استذكار مطلع معلقة «عنترة أبن شداد» التي تنبهنا منذ ذلك الزمن البعيد، إلى معاناة الشاعر وهو يتلظى بجمر حالته الشعرية، باحثاً عن حريته في قول الجديد أو المغاير للسائد، حين قال :

هل غادر الشعراء من متردمِ

أم هل وجدت الدار بعد توهم ِ.

وأميل إلى القول بأن كلمة «الدار» هنا، وفي البيت الذي يناجي فيه حبيبته (يا دار عبلة بالجواء تكلمي» تتحول في النص إلى رمز معادل للحالة الشعرية، التي اتهمّ الشاعر باستنطاقها لكي تكون باباً إلى الاقتراب من جنة الحب ولذة عذاب الشعر وفتنة خلقة.

وتروي كتب التراث العربي، أن أحد الشعراء الكبار، كان إذا افتقد شيطان شعره، أو استغلقت عليه صياغة أحد أبيات القصيدة، يقوم بدهن جسده بالزيت ثم يتقلب «عارياً» في صهريج تحت لظى الشمس الحارقة، حتى تنفتح له الحالة الشعرية، أو صياغة البيت.

وسوف نرى استمرارية صراع الشاعر مع لحظة انخطافه بحالة الشعر، في تجارب شعراء معاصرين، نستذكر منهم – محلياً - « إبراهيم الحسين « الذي انشغل في عدد من قصائده على إدهاشنا بمطاردة «القلم للورقة» من أجل تصوير لذة تلك المعاناة ومفارقاتها، كما يمكن الوقوف على تلك اللحظة الممتعة في قصيدة للشاعر»على بافقيه»، أحد المهمومين بها، حيث يأخذنا إلى داخل حالة الخلق، حين يقول:

أجوس في الطين، أغدو خالقاً قلقاً

كأنما الطين من خلاّقه «انفطرا»

وعلى ضوء هذه التجارب يمكننا القول بأن كل نص شعري يظل ناقصاً، بل وخائناً لوعود الحالة الشعرية التي أوهم شاعرها بها، فكثيراً ما باح الشعراء بحزنهم بعد الانتهاء من النص، ولكن «العلي» لا يأخذنا إلى تلك الحالة التي تسبق كتابة النص، ولا إلى معاناة تشكيله، وإنما سيعبر في داخل النص عن قصور»الحالة الشعرية» عن الوفاء بحلم الإلهام، وملامسة «الحرية المطلقة»، فيمضي في مناجاتها والتحاور معها، وقذفها بالحجارة، حين لا يجد القصيدة في القصيدة!

« وأنت يا ثعباناً

يُسمّى الشعر

سوف أسحق لسانك بقدمي

أخنقك تحت وحل «غدير أمريء القيس «

كم كذبت علينا

كم ملأت كهوفنا بضوء ميت « (لا جدوى – الديوان – ص 146)

و هذا «الضوء الميت» هو أحد منحوتات الشاعر ورموزه المتفردة التي يشكّلها للتعبير عن حدة انفعال الشاعر بغياب القصيدة/ الأمل وليس بحضورها، بدءاً من عنوانها القاسي «لا جدوى»، ومن اختياره لكتابة قصيدة النثر التي منحته فضاء أكثر حرية لهجاء الشعر، وكذلك في استحضاره ل»وحل» غدير امرئ القيس، ضداً على ما كان يوظفه الشاعر من إحالات سابقة على ذلك الغدير الحافل ببهجة مغامرات «امرئ القيس» الحسية في علاقاته بعشيقاته!

«محمد العلي» مفكر ينتمي إلى حقول الواقعية، ويهتم بضرورة أن يكون لكل مثقف أيديولوجية واضحة المعالم تقود خطواته كبوصلة ترنو إلى المستقبل، «أي إلى ما هو آتٍ وليس إلى ما هو كائن» بحسب تعبيره، ولكنه في كل قصائده، لا ينساق بشكل مباشر أو شعاري خلف فكرة أو موضوع محدد، وإنما ينفعل بتجربة روحية ونفسية أو اجتماعية، أو بها جميعاً، تحيل مرجعايتها كإشارات إلى الواقع، لذا يؤثث معماره الشعري بكل شيء، سوى الموضوع الجاهز، ويأتي في هذا المجال استحضاره لحالة وجود «الشعر في الشعر» ويقوم بتوظيفها، مثلما يفعل مع مفردات مثل» البحر، والماء والنهر..»، ليفتح النص على إمكانات تعبيرية خصبة.

إن «تيمة» استحضار «الشعر في الشعر»، وإن بدت شديدة الوضوح والاستمرارية في قصائد بيروت، إلا أنها كانت منبثّة في بعض قصائد المرحلة السابقة، ونشير في هذا الصدد إلى قصيدة « كنت تكتب شعراً» التي كتبها في الدمام عام 1970م، واستخدم دلالة «الشعر» بشكل تهكمي حين شبه الإنسان الغائب عن الإنصات إلى حركة الواقع النابضة بالوعود الجميلة، بذلك الذي يتشاغل عن ندائها اللافح بقراءة الشعر:

« وتسأل أين الطريق إلى النهر؟

.....

إن الطريق إلى النهر، ليلى التي مرضت في الدماء

ومرّت بموكبها- كنت تقرأ شعراً- وذابت

مدى البحر!» (الديوان - ص 46)

أما في مناخ «بيروت «الحرية، وملاذ التأمل والحنين، فإن الشاعر يصبح أكثر قرباً من قرينه الحميم «الشعر»، فيتسابقان لكتابة النص ويصطرعان أيضاً حول ماهيته ووسائل إنجازه.

وحين يكونان على وفاق، يرشي الشاعر صديقه بأجمل استعارة حين يقول:

هل رأيت الجسد

وهو يقرأ شعراً؟

كما يصطحبه معه في الأسواق وأمام الواجهات ليجعله صنواً مدهشاً لامرأة كتب فيها قصيدة «شكل»:

« أنتِ يا بيت شعر ٍستعثر حتى اللغة

في احتضان البروق التي فيه

أو حولهِ «.(الديوان – ص 148)

و «العلي « في صراعه مع ذلك «القرين/ الشعر» يسعى إلى توظيفه في أشكال ومواقف متعددة، يتغيا منها تعميق دلالات القصيدة، وإغناء شحنتها الانفعالية، وحالتها الدرامية، لتصبح كوناً لخلق الجديد، وبوابة يعبر منها إلى فضاء الأمل، فيناجي «القرين» في إحدى قصائده قائلاً: «يا جسري الغائب المنتظر».

أما حين لا تطيب لشاعرنا صحبته مع قرينه «الشعر» فإنه سيذهب – كما أشرنا سابقاً – إلى هجائه، واعتباره «قريناً» مهلكاً حين يقول:

« كيف الفرار من الشعر

هذا الذي أصبح لصاً

بحجم الليل؟ «(الديوان –ص 107)

ويستحضره في مواطن أخرى كمفارقة مفعمة بالسخرية المرّة، القائمة على عبث محاولة الجمع بين الحياة والموت معاً، كما في هذه الصورة المدهشة:

« ما الذي يجعل القلب منفرطاً

كضياء المصابيح

.....

أو ساعة ًهامدةْ

مثل قبر ٍ محاطٍ بأبيات شعر»!

والشواهد كثيرة في هذا الحقل، ولكنني سأكتفي بإضافة النموذج التالي:

« ما لهذا المساء

يتحدث في نفسه ِ

.....

ما له يتصفّحني

ويدرّب أوداجه للنحيب

ما له يتعقّبني كالقصيدة ؟ «.(الديوان - ص 134)

وهنا ستتبدى لنا (القصيدة/ القرين) في ثوب العدو الذي يتعقب شاعرها، وتصبح صنواً لكآبة المساء القابضة على روحه، بعد أن كانت «القصيدة» مناخاً أسطوريا يبحث عنه الشاعر للتطهر من قسوة الواقع والذهاب إلى ابتكار الجديد.

لذلك يمكننا النظر إلى صراع القرين (الشعر في الشعر) في تجربة محمد العلي، كإحدى تبديات ملحمة صراعه مع « المعنى» الذي يظلّ عصياً على الإمساك به أو القبض على أشباهه، داخل النص الشعري(الذي يغدو ماءً..لا ماء فيه) أو في الواقع الذي لم يزل متمترساً خلف أنياب قسوته وتوحّشه، إلى ما شاء الله.

الدمام
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة