Culture Magazine Thursday  03/06/2010 G Issue 313
فضاءات
الخميس 20 ,جمادى الآخر 1431   العدد  313
 
القاضي وقضية (الثقافية)
د. لمياء باعشن

كلما ضاقت بك سبل التعبير عن أي شيء ضعيف، متخاذل، وغير ناضج، فتش عن المرأة. هذا المشبه به الجاهز لن يخذلك أبداً، بل سيمدك بسيل هائل من النعوت التي ستثري وصفك ذلك الشيء، فماذا غيرها في هذا الوجود يلتصق التصاقاً أبدياً وأزلياً، جينياً وبيلوجياً، فطرياً وتربوياً بالوهن والهزال؟ مَن غير هذه المخلوقة تفيدك في وصفك للشيء المتعثر وهي التي لا تمر بمراحل نضج ولا يجود عليها الشباب بعنفوان؟ فالنساء دائماً ثالث ثلاثة في زمرة الضعفاء من الأطفال والشيوخ، لا تشب عن طوقها ولا تبرحها.

كان هذا هو النهج الذي اتبعه الأستاذ الأديب، وعضو مجلس الشورى حمد القاضي في مقاله:

«رفقاً بها يا معشر الورّاق» الذي نشر في ثقافية الجزيرة الأسبوع الماضي، (الخميس 13, جمادى الآخرة 1431 (العدد 312). و تعود «بها» التي في العنوان على القناة الثقافية السعودية، والتي تعرضت لنقد شديد في نفس المطبوعة الأسبوع الذي سبق (العدد 311). ويحاول الكاتب هنا أن يجد العذر للقناة المُنتَقَدة فيعزو ضعفها إلى كونها ما زالت بمرحلة تجريب. ولكن، ولكي تتضح مراميه، فإنه وبحركة ساحرة وعبقرية يحرك نقطة واحدة من كلمة قناة، فتتحول على الفور إلى فتاة!

يستنجد الأستاذ حمد القاضي بالمرأة فيقرن ضعف القناة بها ليتضح المعنى المقصود، وبالتالي فالقناة « طفلة صغيرة.. لم يتجاوز عمرها ستة أشهر»، وهي «ابنتنا ذات الجسد الغض»، ثم هي «امرأة رقيقة». في تقييمه لمنجز ولمسار القناة الثقافية، يعترف القاضي أنها أقل من مستوى النقد، وأن أداءها متواضع، وأن إمكانياتها بسيطة، وبالطبع فإن هذه الصفات تتشابه مع طبيعة الأنثى المنتكسة، بل هي من نعوتها الأصلية. ويقول الكاتب أن القناة / الفتاة تحتاج «إلى سنوات حتى تنضج وتحقق كامل النجاح والانتشار»، وحين تستوي، أي تستقيم وتنضج، حينها طبعاً ستخرج من طور الأنوثة المائعة، لتصبح رجلاً قوياً!!

ويوجِّه الكاتب مقاله ذاك إلى معشر الرجال كما يتضح من عنوانه، و»الورّاق» هم أولئك الإعلاميون الذين انتقدوا القناة، وإن كان من بينهم الكاتبة أميرة القحطاني والإعلامية أحلام الزعيم، إلا أن الخطاب أهمل وجودهما، وجاء ذكورياً بحتاً وموجهاً إلى من يدعوهم الكاتب ب»معشر الرفاق» الذين يستحثهم على الرفق بالقناة / الفتاة كما ينص عنوانه الذي يحمل أصداء الوصية النبوية الشريفة: «رفقاً بالقوارير». ويهدف المقال في مجمله إلى دعوة رفقاء الثقافة إلى التعامل مع القناة الضعيفة كما يتعامل الرجل مع امرأة، ف»حقها علينا أن نربت على أكتافها بيد الحنان»، وألا «نثبطها ونكسر خاطرها، بل نتعامل معها كما تعامل الشاعر بدوي الجبل مع طفلته:

وهِّيء لها في كل قلب صبابة

وفي كل لقيا مرحباً ثم مرحبا».

ثم تأتي الوصية الأقوى والأفدح في قوله إن القناة كالمرأة «تحتاج في نقدها وتقويمها إلى الكلمة الرقيقة تماماً»، وهنا تتجلى الوصاية الذكورية في أوضح صورها، فالتعامل مع المرأة يستدعي حتماً الحاجة إلى (تقويم) اعوجاجها من الرجل المستقيم، والكاتب يعطي مثلين من أساليب التقويم، أولهما الرمي، ولو «بورد الحدائق ومراود الكحل»، ثم الجلد ولو «بسياط الحب». كل ورود العالم، ومراود كحلها، وأطنان من الحب تبقى مجرد تمويه يعجز عن إخراج فعلي الرمي والجلد من إطار العقوبات التي يجري بها التقويم.

يعتمد تشبيه المرأة بالقناة على استدلال منطقي مريع:

القناة ضعيفة (أ = ض)

المرأة ضعيفة (ب = ض)

إذاً القناة = المرأة (أ = ب)

وهذا يثبت منتهى العقلانية في تماسك أطراف المعادلة التي تقود إلى أن القناة امرأة، خاصة أن الكاتب لا ينوي دفع تهمة الضعف عن القناة، بل إن كل ما يهدف إليه هو استعطاف النقاد واستجداء حنانهم على هذه القناة المسكينة. ألا يحق لنا أن نستنتج من هذه العقلانية المفرطة أن هناك نسق يتحكم في اختيار القاضي للمرأة كمشبه به في هذا الاستدلال؟ أليس في طياته دلالة على طبيعة القاعدة التي تحكم العلاقة بين الرجل والمرأة؟

إن نموذج المرأة الضعيفة هو نمط تقليدي متوارث، حمله بحرص كبير الخيال الجمعي الذكوري الذي قسم العالم بالتساوي إلى ثنائيات حدية، بيضاء وسوداء، صحيحة ومخطئة، قوية وضعيفة... فكأن المرأة الضعيفة هي كل النساء، وكأن الرجل القوي هو كل الرجال دون مراعاة لأي فوارق. وما دامت المرأة ضعيفة فهي تستحق أن يحن عليها الرجل ويرميها بوروده، فاحتياجها له يشعره بتلك القوة التي يجول ويصول وحده في فضاءاتها، فإن أظهرت المرأة قوة، ولو حتى دون مجابهة واقتصرت على استقلالها عنه، سماها مسترجلة، ثم فرد عضلاته ورماها بالحجارة، في كل الأحوال، هو يحتفظ لنفسه بحقوق الرمي.

عندما تستصرخ المرأة رجلاً فهي تستفز فيه ذلك الفارس القوي المغوار الذي يحتم عليه فضل الذكورة أن يهرع لحمايتها، وإن ذرفت دمعة واحدة تأكد لديه أنها حتماً ضعيفة وأنها تتقوقع خارج دوائر قوته. إنقاذ المرأة عديمة الحيلة من مواقف صعبة هو اختبار الرجولة الأمثل، وفي كل أساطير العالم القديم والحديث لا تثبت بطولة البطل إلا بعد اجتيازه هذا الامتحان: تصرخ المرأة: وا رجلاه، فيمتطي صهوة جواده ويشهر سيفه ليخترق الحواجز ويحطم الأسوار ويقتل الوحوش، ثم يفك قيود المسكينة ويجفف دموعها. هذا هو التوازن الذي يحدد مواقع الرجال والنساء في هذا الكون، كلما زاد احتياج المرأة للرجل، كلما شعر بقوته وازداد يقيناً من أفضليته التي تباعد بينه وبينها.

أما عصية الدمع فلا تعاطف مع حالها مهما قدمت من دلائل عقلانية وتحاججت وبرهنت. في أساطير البشرية تظهر كل امرأة مفكرة وفاعلة ومستقلة في شكل وحش كاسر، أو ساحرة شريرة، أو كائن ذو مخالب وأنياب يثير الرعب، (كما يقول الزميل صالح زياد « يا ممممممه»!) إذا دخلت المرأة في سجال مع رجل، تجده مبتسماً مستخفاً بما يسمع، وفي معظم الأحيان لا يعيرها اهتماماً ولا يساجلها، ويتركها تهذي هذيان النساء الفارغ. لكن دوره يتبدل حين تتباكى بين يديه الضعيفة، خاصة إن طلبت منه نصرتها ضد تلك القوية الشرسة القاسية. لفض الصراع الحريمي ومهاوشات النسوان، يتصدر الرجل القوي للأمر، ويجمع عدته وعتاده، ويتحرك بكل سلطانه وعنفوانه لهزيمة ذات العقل، منتصراً لذات الدمع.

صلابة الموقف عند النساء تثير حفيظة الرجال وتزحزح قناعاتهم وتخيفهم من زحف مؤنث على فضاءات رجولة قوية. كل امرأة حاذقة أدركت تكتيكات هذه اللعبة، وربما توارثتها جينياً، شربت مع حليب أمها فنون الاستضعاف، وهو سلاحها من أجل البقاء: كسب تعاطف الرجال سهل ولا يكلف سوى قطرات تذرف. هذه التمسحة البليدة هي التي تضمن للمرأة الضعيفة الفوز بكل القضايا، فالرجل يستحرم (حرام) أن يقسو عليها وأن يكسر خاطرها، ويناصرها حتى ولو زوراً وبهتاناً. لكي يبقى الرجل قوياً فعليه أن يجلدها «بسياط الحب»، وأن يساند أخطائها، وأن «يربت على أكتافها بيد الحنان»، وأن يفعل أي شيء وكل شيء، على شرط أن تبقى رقيقة، رهيفة، ضعيفة.

يختتم القاضي مقاله بشعر غزلي «لشاعرنا (مسافر) في قصيدته التي وزان فيها بين شفاه المرأة وشفاه الوردة»، ثم يصادق على انتصار (مسافر) لشفاه المرأة. وقد احترت في مناسبة القصيدة لمقام المقال، لكنني وجدت أن صورة المرأة التي استدعاها القاضي لمساعدته في وصف ضعف القناة الثقافية، قد أنسته القناة وشؤونها، وطغت على خياله الذكوري، فانتشرت وشاعت، وتمددت وغزت، واحتلت مساحات لم تكن من حقها أصلاً. كانت الصورة معيناً له، فتجزأت وأخذ كل جزء منها على حدة مكانة المديح والتغزل، حتى انتهى إلى شفتيها. تتغزل القصيدة بجمال شفتي المرأة وتشبههما بالوردة: شفتان رقيقتان مطبقتان لا يفسد جمالهما الكلام.

جدة lamiabaeshen@gmail.com
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة