Culture Magazine Thursday  06/05/2010 G Issue 309
فضاءات
الخميس 22 ,جمادى الاولى 1431   العدد  309
 
الفنّ وَالديكتاتوريّات العسكريّة
د. شهلا العجيلي

يعود ذيوع أدب أمريكا اللاّتينيَّة في العالم العربيِّ، منذ أربعة عقود ويزيد إلى الرغبة في معرفة الآخر، أي الآخر غير الأمريكيّ، وغير الأوروبيّ، ذلك الذي يحتفظ بطبقات متعدِّدة من الخصوصيّة الثقافيَّة: الدينيَّة والاجتماعية والسياسيَّة، إنَّه الآخر الذي نتقاسم معه ما يسميه إدوارد سعيد ب (شرور العالم الثالث)، إذ نشترك معه في ثورات التحرر الوطنيَّة، ونتشابه معه بحضور الجهل، والفقر، والبطالة، وبخضوعنا للديكتاتوريات العسكريَّة، وبالعلاقة بين السلطة والمثقَّف، بل بمفهوم المثقَّف بحدِّ ذاته، ففي حين إن مسؤولية الكاتب الوحيدة في البلدان المتقدمة هي مسؤولية شخصية فنية، ومسؤولية عمل أدبي يغني الثقافة والحضارة، فإنَّ وظيفة الكاتب في كلٍّ من أمريكا اللاتينية والعالم العربيِّ، محددة، كامل التحديد، إنَّه يتحمل مسؤولية تكاد تكون اجتماعية حصراً، إذ لا ينصب اهتمام المثقفين على عوالم خاصَّة، ولا يعيشون في أبراج عاجية، ولا يكرِّسون حياتهم لموضوعات عويصة غامضة، قد يصل بعضها إلى حد السحر والعرافة، إنهم أقرب ما يكونون إلى الصدق مع أنفسهم حين تدفعهم مبادئ العدل والحق إلى فضح الفساد، والدفاع عن الضعفاء، وتحدي السلطة الغاشمة. يبدو ذلك جليَّاً فيما يكتبه البيروفي ماريو فارغاس يوسّا، وهو من أهمِّ كتاب أمريكا اللاتينيّة، وله حضور في العالم العربي، إذ زار مصر عام 2000، كما زار لبنان، والعراق عام 2003، وكتب كتاباً عن الحرب في العراق.

يثبت يوسّا في نصّه (بانتاليون والزائرات) أنَّ ما يصنع الروايات الجيِّدة، أو الهامَّة، ليس الأفكار الخطيرة، ولا الأحداث العظيمة، ففي الفنِّ تغدو القضايا الكبرى الدينيَّة، والتاريخيَّة، والإيديولوجية، عموماً محض خيال، والرؤية الروائيَّة هي التي تجعل من أيَّة حادثة بسيطة حدثاً هامَّاً في واقع النصّ.

إنَّ حكاية الرواية الرئيسة ليست حرباً عالمية، ولا أهليَّة، ولا شقاقاً نسقيّاً، أو دينيّاً، الحكاية هي حكاية الملازم في جيش البيرو (بانتاليون بانتوخا) الذي رقِّي إلى نقيب، في امتداح شديد لأفعاله العسكرية وتفانيه وإنجازه، وصاقبت مرحلة ترقيته أحداثاً اجتماعية خطيرة في أحد أقاليم الأمازون، إذ يحتجّ الأهالي على تصرّفات عناصر حامية الجيش في تلك المنطقة، نتيجة تحرّش الجنود بالفتيات والنساء هناك، ممّا أوقع العديد من حالات الاغتصاب. ونظراً لنجاح النقيب بانتاليون بانتوخا في المهام السابقة كلّها التي أوكلت إليه، تمّ تعيينه المسؤول عن حلِّ هذه المشكلة هناك. فارتحل وعائلته المكوَّنة من والدته العجوز، وزوجته العروس إلى إقليم الأمازون، ليؤسس خدمة الزائرات، وهنَّ مجموعة من المومسات يقدّمن للجنود خدمات التفريغ البيولوجي، مقابل راتب بسيط، والأهم من ذلك أنهنّ يسهمن في حماية الوطن، بإسهامهنّ في تأمين راحة حماته.

تتأتّى السخرية في النصّ من دمج أكثر المجتمعات رصانة (العسكر)، كما هو مفترض، بأكثر المجتمعات خلاعة (المومسات). ويبدو مجتمع العسكر هنا منضبطاً ومنظّماً، كما تفترض النظريّة العسكريّة، إذ تعامل الطرف الأول (النقيب بانتاليون) مع الموضوع بجديّة تامّة، كما يتعامل مع أيّ أمر عسكري، واقتنع الطرف الثاني (الزائرات)، برؤية الطرف الأوّل، القائمة على أداء الواجب في خدمة الوطن، فتعلقوا جميعاً بالعمل الذي اتخذ مشروعيّته من حيث سيرورته تحت مظلّة القيم العليا.

يعرّي هذا النصّ المؤسسة العسكريّة الديكتاتوريّة عبر السخرية اللاذعة، التي تجلّت في المزاوجة بين الرصانة والخلاعة، ويشير ذلك إلى أنّ المؤسسة العسكرية قادرة على القيام بأيّ شيء، حتّى شرعنة العهر، وتقنينه، وهي عمليّة ثقافيّة غريبة، لأن الثقافات جميعها منذ نشوء أقدم مهنة في تاريخ البشريّة، تعارفت على أنّ العهر في ذروة سطوته، وفي أغلى أشكاله، موقعه هامش الثقافة لا متنها، وذلك مهما تم تمويهه، ومهما كانت مواقع المتشاركين فيه. لقد كشف النصّ زيف هذه المؤسسة القادرة على أن تفعل أيّ شيء، وأن تؤدلج أيّ شيء، وأن تنقل أيّ مفهوم من المتن إلى الهامش وبالعكس، إنّ بإمكانها أن تعهّر عملاً ما، وأن تضفي القدسيّة عليه في الوقت الذي تراه في صالحها، وذلك باللعب بحدود مفاهيم من مثل: الحقّ، والواجب، والاستشهاد، والدفاع عن شرف الأمّة،... وأنّها يمكن أن تتنكّر، وتنسحب، وتعاقب في أية لحظة.

تتولّد الإيروتيكيّة في هذا النصّ من صلبه، أي من الموضوع، وهي ليست مقحمة على السياق الفني، أو مقترفة لتكسر (تابو) معيّن، أو لتجذب المتلقّي، بل لا أعتقد أنّه يمكن مقاربة مجتمع للمومسات والقوّادين بقدر أقل من الإيروتيكية ممّا جاء في هذا النصّ، ويأتي هنا دور المترجم (صالح علماني)، العالم بالخصوصيّة الثقافيّة للبنيتين الاجتماعيّتين المترجَم منها، والمترجَم إليها. ولعلّ المتلقّي سيجد في أي نصّ عربيّ مقاربات لعلاقات إنسانيَّة، فيها من الإيروتيكيّة أكثر بكثير مما ورد في هذا النص الذي يتخذ من مجتمع محظور بنية اجتماعيّة له.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7875» ثم أرسلها إلى الكود 82244

حلب
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة