Culture Magazine Thursday  06/05/2010 G Issue 309
فضاءات
الخميس 22 ,جمادى الاولى 1431   العدد  309
 
الطين والاعوجاج: قضية لا يسقطها التقادم
لمياء باعشن

من المعلوم أن القضايا تسقط بالتقادم، وأن مرور الزمن يزيل الحق في إقامة الدعوى، كما أن القاعدة العامة في أي قانون دستوري تقضي بعدم جواز عرض قضية للمحاكمة أكثر من مرة أن اتهام واحد. لكن هناك قضية واحدة لا تسأم المحاكم من استئنافها، ومن كتابة المعاريض فيها وعنها ومن حولها، قضية واحدة يُفتح التحقيق فيها ملايين المرات على مر العصور، وتطول فيها المداولات، وتتدفق من أجلها وضدها المرافعات، وقد تحصل على حكم بالبراءة، وربما يصدر لها حكم بالإدانة، وقد تخبو جذوتها لوهلة، لكنها تعود للتأجج من جديد دون كلل أو ملل.

تلك هي قضية المرأة! وقد يظن البعض أنها قضية شائكة وعويصة، لذلك فقد ظلت شاغلة لعقول البشر في كل الأزمان، لكن الحقيقة أنها قضية بسيطة للغاية فحواها ومحورها وجوهرها هو مسألة خلق المرأة من ضلع أعوج، أما بقية اللغط الفائض فهو إما وصم المرأة بصفات تتناسب مع ذلك الاعوجاج، أو أحكام تجتهد لتقويمه وإصلاحه. فلأن الضلع أعوج، لا بد أن تكون المخلوقة العوجاء خسيسة، دنيئة، ماكرة، ومتحايلة، لذا يتحتم على الرجل الطيني المستقيم أن يحكمها، ويسيّجها، وأن يحذرها ويحتاط من غدرها ومن مغبة افتتناه بها وإغوائها له.

من هذا المنطلق خرج علينا الأستاذ أحمد بن محمد الأهدل بقصيدة طويلة نُشرت في ملحق الأربعاء، الأسبوع الماضي (28 أبريل 2010)، سماها بابتكار غير مسبوق "مكر النساء"، فهو بعد تجربة أوريجنال مع إحداهن قرر أن يناصح أبناء جنسه من مغبة السذاجة و"التغفيل" في تعاملهم مع النساء:

"فاسمع قصيدي لا تكن بمغفل

وإذا بُليت بمكرهن فإنني

أسديت نصحًا من فؤادي المبتلي

هن الأفاعي ملمسًا ونعومة

لا تخدعن بدمعهن المسبل"

ولكي يسجل ذلك الكاتب حقوقه الفكرية في عرض تلك القضية "البايتة"، وضع اسمه في أول بيت، وفي آخر بيت، حتى لا تسول لأحد نفسه أن ينسب لها هذا الاكتشاف الرهيب، فيقول في مطلعها: " قل للنساء على لسان الأهدل..."، وفي نهايتها أيضاً: "قل للنساء على لسان الأهدل". ها هو كاتب القصيدة في القرن الخامس عشر الهجري يجتر مرافعات مستهلكة قد رُفعت ضد المرأة منذ الجاهلية، فهو يلجأ إلى نفس الأفكار التي تؤصل خساسة النساء، والنتائج المترتبة على العوج الذي خلقن منه، فهن حليفات الشيطان الذي تمثله تلك "الأفاعي" التي تلوّت في مطلع قصيدته، وهن ناكرات للجميل، ناقضات للعهد، متحايلات، غادرات، ماديات، وماكرات:

"ينسيْنَ ما قدّمتَ من ودٍ جلي

لا يحفظنّ العهد والود الندي

حيلٌ لهن عظيمة لا تنتهي

يكفرنَ دومًا بالعشير وفضله

يلهثنَ خلف المال دون توقف

ولهن مكرٌ في الظلام الأكحل

مصحوبة غدرًا بمكر مضلل"

، ثم يختتم قائمة الشتائم والمذمات بقوله:

ستقول يومًا قالها من قبلنا

رجل بمكة في الزمان الأول

وربما يتخيل كاتب القصيدة أنه هو ذلك الرجل صاحب المقولة في الزمان الأول، لكن الزمان الأول في واقع الأمر يعود إلى زمن مكي سحيق مداه أربعة عشر قرناً، ردد فيه شعراء آخرون أبياتاً تناصح الرجل الطيب، المسكين، النقي السريرة، وتحذره من النساء الغادرات، أبيات على شاكلة:

دع ذكرهن فما لهن وفاءُ

ريح الصبا ووعودهن سواءُ

يكسرن قلبك ثم لا يجبرنه

وقلوبهن من الوفاء خلاء

وتوقّ من غدر النساء خيانة

فجميعهن مكايد لك تنصب

لا تأمن الأنثى حياتك إنها

كالأفعوان يراع منه الأنيب

لا تأمن الأنثى زمانك كله

يوماً ولو حلفت يمينا تكذب

تغري بلين حديثها وكلامها

وإذا سطت فهي الصقيل الأشطب

وإذا كان لدينا شك في أن قصيدة القرن الخامس عشر الهجري، المعنونة ب " مكر النساء"، تكرر وتجتر أفكار القرن الأول الهجري، فلنقارن هذين البيتين بالتحديد:

إن شاب رأسك أو أصبت بعاهة

أصبحت كالكلب الجريح الأعزل

إن جئت تطلب ودهن فلن ترى

غير الصدود ووحشة لا تنجلي

مع بيتين سابقين عفى عليهما الزمن:

فإن تسألوني بالنساءِ فإني

عليمٌ بأحوالِ النساءِ طبيبُ

إذا شاب رأس المرء أو قلَّ ماله

فليس له في ودهنَّ نصيبُ

قضية واحدة، ومرافعة واحدة، والحكم الصادر من الرجلين ، القديم والمعاصر، بعد هزيمتهما أمام النساء هو الإدانة حتماً، إدانة على طريقة حامض يا عنب! أما سبب هذه الهزيمة النكراء فمعروف ومؤكد، إنه كيد النساء، ما غيره. وهذا الكيد ما مصدره يا شطار؟ إنه الاعوجاج إياه، الذي هو طبيعة المرأة وجبلتها التي يؤكدها الأهدل:

كيد النساء ومكرهن طبيعة

لا يستريح لهن غير الأجهل

لا تحقرنْ كيد النساء فربما

يرديك يومًا لحظهن بمقتل

ثم يجد الأهدل لتهمة الكيد النسائي سنداً لا يُضاهى ولا يُدحض، فهو وغيره من المترافعين ضد المرأة، أو من الذين يغضبهم عدم انصياع النساء لرغباتهم ويستثيرهم عدم خنوعهن لأهوائهم، يهرعون لكتاب الله الكريم ليستخرجوا منه آيات بينات تؤصل الخبث والمكر والتحايل البغيض في طبيعة المرأة، فيقول:

أقسمت بالله العظيم بأنه

قد قال صدقًا في الكتاب المنزل

كيد عظيم كيدهن وغالبًا

يستبدلنّ كريمهنّ بأنذل

كثير من المفسرين وضحوا معاني الآية الكريمة: (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)، كما بينوا معاني المكر والكيد، السيء منها والمحمود، ولسنا هنا بصدد التفسير، لكن، بعيداً عن كل تفسير منصف، فإن الآية الكريمة تمنح المتضررين من استقلالية المرأة بفكرها راحة قصوى، فبدلاً من أن يتأملوا بتواضع قابليتهم للانخداع، أو يعترفوا بتذمرهم من عجزهم عن كسر إرادة المرأة، يحيلون المسألة برمتها إلى طبيعة خلقها، ويتنصلون من اللوم ليضعوه على كيدها واعوجاجها.

مفردات هذه القصيدة المغرضة يعلوها الغبار، وهي قصيدة خارجة عن إطار زمنها. أيعقل أننا بعد كل هذه العقود من التوعية والدفاع عن حقوق الانسان ونبذ التعنصر ومحاربة الأحكام الشمولية المجحفة، نجد أمامنا قصيدة من المفترض أن يكتبها شاعر مثقف مستنير، لا زالت تلوك في مسائل الذم والتحقير والشتم والإساءة إلى النساء؟ هذه القضية التي تأبى أن تسقط بالتقادم، تظل تُعرض للحكم رغم صدور أحكام سابقة، قضية ممجوجة ومملة، فُتحت وأغلقت، ثم فُتحت آلاف المرات وأغلقت، وفي كل مرة يخرج علينا من يثيرها وكأنه عثر على ضالته، دون الرجوع إلى الملفات العتيقة التي حسمتها.

للتأمل: خلقت المرأة من ضلع أعوج، لا شك في ذلك، لكن من يا ترى صاحب ذلك الضلع الأعوج؟ وهل يعتقد كل رجل أنه هو آدم صاحب ذلك الضلع، وأن النساء يُخلقنَ منه حتى يومنا هذا؟ إذاً، ما شأن الآية الكريمة التي يقول فيها جل جلاله: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء?؟ ألا يتضح لنا أن الرجال والنساء أجمعين هم نتاج دمج صاحب الضلع مع المخلوقة منه؟

يا أيها المبثوثون، هل لحقكم الاعوجاج الذي خرج من صدوركم؟

وللتأمل الأعمق: من هو ذلك الكائن الناري الذي احتقر مخلوق الطين، وانشغل بمادة الخلق عن عظمة الخالق؟

جدة lamiabaeshen@gmail.com
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة