Culture Magazine Thursday  06/05/2010 G Issue 309
سرد
الخميس 22 ,جمادى الاولى 1431   العدد  309
 
قصة قصيرة
ذاكرة
محمد المزيني

كان ذلك المساء الشتائي غارقا بتجاعيد المكان، الذي أطبقت عليه السماء بفيض من مياه كانت مؤجلة سنة كاملة، قرية الحمادة التي تبعد عن العاصمة ستون كي لا لا تبلغها سيارات الشحن الصغيرة إلا بشق الأنفس، تدون ميلاد السماء، وهي تصوغ تاريخ الوجوه وترسم خطوط الأقدار على أديم أرضها الخصبة، رقية ابنة عمشاءِ الحيد لا تزال ضامرة الحشا لم يطوق جيدها غلالة بعد؛ اثنتا عشرة سنة العمر الكافي لتتحمل جزءا من أعباء البيت الكبير المشرع على السماء كأيد تمتد منفتحة بالدعاء، ألقت عليها أمها أعباء سقي النخلات الثلاث وحياض العلف، وتنظيف زريبة البهائم منذ أن تنهض من نومها على آذان الفجر الأول وحتى مغيب الشمس، وهي منكبة بانهماك تام لتأدية مسؤولياتها اليومية، لا يقطع وتيرتها سوى غيابها ساعتين من نهار لحضور الدرس اليومي على يد منيرة الحمد، التي كانت تحفظها القرآن برفقة عدد من صويحباتها، ذات مساء وبينما كانت تعلف أم البركة (بقرتهم الحلوب) أحست بحركة تخشخش في جيبها الجانبي، تلمسته بيدها فصعد إلى مخيلتها أنه صرصار تسلل إليها وهي تعلف البقرة، تقريبا تأكدت أنه الصرصار الملعون الذي يقشعر بدنها لمجرد رؤيته، ففزعت تهرول صارخة وهي تكمشه من خلف ثوبها بأطراف أناملها (صارور.. صارور.. صارور)، ركضت بخطوات واسعة، خرجت إلى براح الشارع فاقدة الصواب وفمها يفور بالصراخ الذي ملأ فجاج الأزقة بالرعب، وأمها تلاحقها لاهثة رآهما زويد الشاب الفتي الذي لم يكن يبرح السبعة عشر ربيعا فسارع في إثر الفتاة الجزعة بنشاط وعزم حتى أدركها, أمسك بها من طرف ثوبها مخمنا إصابتها بمس من جنون، شد وثاقها من طرف ثوبها حتى ثبتها إلى الأرض, فما أن وصلت أمها حتى نزعت يدها عن جيبها مولجة أصابعها داخله لاصطياد الصرصار اللعين، فوقعت على نواة تمرة التقطتها سريعا فأخرجتها تهزها أما عيني ابنتها وهي تضحك ساخرة منها، تنحى زويد قليلا, مرتكنا على شاحنته العائد بها توا من العاصمة، تفككت حبال وجهه عاودته سكينته مع ابتسامة افترشت محياه, وعيناه تقطرهما لا تتزحزحان عن المدى الذي ابتلعهما. ويداه لا تزلان رطبتين برائحتها.

/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة