Culture Magazine Thursday  06/05/2010 G Issue 309
ترجمات
الخميس 22 ,جمادى الاولى 1431   العدد  309
 
في مديح الآباء...
جمعية الآباء الميتين -1-
حمد العيسى

بقلم: بروفسور جوزيب نوفاكوفيتش

إهداء خاص من المترجم: إلى روح والدي الشيخ عبد العزيز الحمد العيسى

وإهداء عام: لكل من فقد والده

ملاحظة: نشرت هذه المقالة بالإنجليزية في عدد يناير- فبراير 2010 من مجلة «الأدب العالمي اليوم» World Literature Today، وهي مجلة تصدر كل شهرين عن جامعة أوكلاهوما الأمريكية منذ عام 1927. وكالعادة، الكلمات التوضيحية التي بين (قوسين) للمترجم، وكذلك علامات التعجب- التأثر.

تقديم المجلة: في الحادية عشرة، فقد الكاتب الكرواتي جوزيب نوفاكوفيتش والده. وفي هذه المقالة النادرة والفريدة من نوعها، يناقش نوفاكوفيتش تأثير وفاة والده المبكرة على حياته، وإيمانه، وكتابته، وكذلك «الحميمية» التي وجدها مع «الآخرين» الذين فقدوا آباءهم في وقت مبكر.

تقديم المترجم: جوزيب نوفاكوفيتش كاتب أمريكي من أصل كرواتي. هاجر أجداده في بداية القرن العشرين من جمهورية كرواتيا التابعة لما كان يسمى «الإمبراطورية النمساوية المجرية» (وكانت تسمى أيضاً «النمسا-المجر») إلى مدينة كليفلاند في ولاية أوهايو الأمريكية. وبعد الحرب العالمية الأولى، عاد جده بعدما حصل على الجنسية الأمريكية إلى جمهورية كرواتيا التي صارت جزءا مما أصبح يسمى «اتحاد جمهوريات يوغسلافيا» (أي يوغسلافيا). ولد جوزيب نوفاكوفيتش عام 1956 في مدينة داروفار في جمهورية كرواتيا. درس الطب ولكنه لم يكمل. وفي سن العشرين، غادر يوغسلافيا ليكمل تعليمه في الولايات المتحدة التي يحمل جنسيتها حيث درس في جامعتي ييل Yale العريقة ثم جامعة تكساس-أوستين المرموقة، ليحصل في النهاية على دكتوراه في اللغة الإنجليزية.

أصدر البروفسور نوفاكوفيتش رواية وحيدة بعنوان «يوم كذبة أبريل»، وثلاث مجموعات قصصية، وكتابين يجمعان مقالاته النقدية والفكرية، وألف كذلك كتاب دراسي جامعي «ورشة كُتَّاب القصة الخيالية» Fiction. مارس نوفاكوفيتش التدريس في عدة جامعات أمريكية مرموقة وآخرها «بنسلفانيا ستيت يونيفرسيتي» حيث يعمل حاليا بروفسور للغة الإنجليزية. حصل نوفاكوفيتش على عدة جوائز أمريكية مرموقة للبحث والكتابة الإبداعية.

المقال: جمعية الآباء الميتين

عملية الحساب Math بسيطة: الرجال يتزوجون في سن أكبر من النساء ويموتون في سن أبكر. وهذا يعني أن العديد من الأطفال المولودين لآباء كبار السن يكبرون مع تربص وتوجس محقق لموت الأب. مات والدي عندما كنت في الحادية عشرة، مما ترك تأثيرا ضخما وعظيما علي حتى الآن، لذلك أصبح واحدا من أول الأشياء التي أريد معرفتها عندما أتعرف على الناس هو ما إذا كانوا فقدوا آباءهم «مثلي»!! أعتقد أن هناك علاقة «حميمة» مشتركة بين الناس الذين يفقدون آباءهم في وقت مبكر. لقد جربت ذلك بعد وفاة والدي مباشرة حيث تصادقت فورا مع صبي يتيم في الحارة كنت أعتقد أنه يكرهني من قبل.

ففي اليوم التالي لوفاة والدي، تصادقت بسرعة مدهشة مع ملادن الذي يقيم في حينا ولعبنا بالحجارة أمام منزلي، وفجأة أثناء اللعب باغتني ملادن قائلا:

- نحن الآن متساويان!!!

- ماذا تعني؟!

- توفي أبي عندما كنت في الثالثة. سوف تجرب بنفسك الآن كيف يشعر من لا أب له!!

بدا مبتهجا لوجود صديق يعاني من نفس المأزق، وبينما لا أستطيع القول أنني فرحت لوجود صديق فقد والده في وقت مبكر مثلي، فقد شعرت بالتأكيد بشيء من «الحميمية» الفورية لتلك الصدفة المرة- الحلوة.

ثم عندما كبرت، أصبحت أرصد مثل هذه الصداقة النادرة والمشاعر الحميمية في عالم الكتابة، حيث صرت ألاحظ تصرفات وإبداعات الكتاب الذين فقدوا آباءهم في سن مبكر. صديقي الروائي بيل كووب فقد والده عندما كان في سن الرابعة. أول رواية كتبها كووب تفتتح بحكاية عن «إذن» Ear أب توفي للتو يتم تخليلها في جرة (مرطبان) للذكرى!!! وهي صورة إبداعية تعبر عن الوفاء وترمز لحلم الابن أن يواصل الأب سماع أحاديث عائلته (وربما نصحهم) بعد موته كما لو كان ما يزال حيا. وهي حركة إبداعية مبتكرة، ومروعة في ذات الوقت!! وأعتقد أن ذلك يصف مشاعر وأمنيات وأحلام كثيرين منا، ذكرا أو أنثى، في هذا النادي العالمي غير الحصري الكبير: «جمعية الآباء الميتين».

كاتبة صديقة آخرى، ماديلون سبرنغنذر، تصف في كتابها «البكاء في السينما» اللحظات التي جعلتها هائمة على غير هدى في شبابها ومرحلة المراهقة والبلوغ: لقد شاهدت والدها يغرق في نهر المسيسيبي بعدما قفز من قبالة جزيرة صغيرة إلى النهر محاولا إنقاذ ابنه الذي سقط في النهر للتو ثم سحبهما تيار قوي، وشعرت ماديلون برعب سرمدي (أبدي) لا يزال يلازمها لأنه لم يطف أي منهما بعد ذلك. وعندما زرتها، كانت تستمع إلى مقطوعة ميلانخولية (سوداوية/كئيبة) مؤلمة وشديدة الحزن (للموسيقار النمساوي الرومانسي غوستاف) ماهلر، بل ربما كانت أكثر مقطوعاته مأساوية على الإطلاق في رأيي. ولذلك، قلت لها متهكما: «أنت بالتأكيد تعرفين كيف تنشرين الفرح والبهجة حولك؟ أليس كذلك؟» ضحكت ماديلون وهي تجيب بصراحة جميلة: «أحب الحزن وأستمتع به. بصراحة، أجد فيه لذة بديعة ونشوة لا تضاهى». حسنا، لقد لويت وحرفت حكايتها قليلا، ولكن بعد ذلك اتفقت معها بخصوص «لذة الحزن» هذه، لأن تلك الصدمات (الحزينة) للمفاتيح (الروحية) الصغيرة داخلها كانت تصنع شيئا مذهلا في ذهني أيضا. بالطبع، سيكون من الصعب الادعاء بأن الآخرين الذين لم يفقدوا آباءهم في وقت مبكر لا يعرفون مثل ملذات «الحزن الميلانخولي» هذه.

إلى حد معين وبغرابة مدهشة، عندما أجتمع مع أصدقاء فقدوا آباءهم، يتولد لدي إحساس بأنني وسط مجموعة من «الأطفال» الذين يمكنهم أن يلعبوا بدون «إشراف» و»مراقبة»!! لقد زال واختفى إلى الأبد «المُشرف»، باني «الأنا العليا» Superego. ولكنه بالتأكيد يلوح هنا وهناك بصورة شبحية بطريقة قد ترهبنا أحيانا.

من الممكن في لحظات الخوف أن أتشبث ب»الأنا العليا»، كما لو كانت ستمنحني الأمن لوجودي مع أبي، «الحامي». ولهذا السبب، توطد إيماني بالله بسهولة ويسر. وبالتأكيد، صليت لله في لحظات الخطر. ولكن للأسف، في لحظات المتعة والسعادة، نسيت الله!!! توفي والدي بطريقة عزز فيها فقط خوفي وإيماني، الخوف من الله هو بداية الحكمة، بحسب الإنجيل، ورؤية والدي يموت ملأتني معا: بالرعب وبالرغبة في السمو على وفاته والحزن عليه.

في منتصف ليلة 6 فبراير عام 1968، انتهيت أنا وأخي معا من الصراخ برعب لرؤية الدم يخرج من أنف والدنا بعد سكتة قلبية. وعندما شعرنا بعدم وجود نبض في يده ورقبته بعد دعائنا الجنوني المحموم إلى الله لينقذه، ترثينا، تقريبا مندهشين لكوننا ما نزال أحياء نحن أنفسنا. سألت نفسي لوهلة: «وماذا الآن؟؟». وحدق أخي في وجهي بحالة من «عدم الوعي والاستيعاب» لما جرى فهمت منها أن الحياة ستستمر. ولثوان قليلة، أصبحنا معا هادئين، بل وشعرنا - بغرابة - كأننا أغثنا وأنقذنا. الرعب يمكن أن يحدث، ولكن، مع هذا، يمكن أن تستمر (الحياة). وفور عودة وعينا وتذكرنا لوفاته، انتكسنا للنحيب والبكاء والدعاء، وعندما حاولت الذهاب إلى السرير للنوم، شعرت بقشعريرة مزعجة ورجفة عنيفة في جسدي.

نظر أقاربي وأصدقاء العائلة الذين جاؤوا لوداع جثة والدي، والتي كانت موضوعة على طاولة الطعام في غرفة المعيشة، في وجهي بتعاطف، وطبطبوا على رأسي بحنان وعطف. لم أشعر قبلها بأني محبوب بذلك القدر. تسللت بعيدا عن ذلك الجمع الحزين نحو الحديقة، حيث انتابني وهزني شعور «كريه» بكوني أصبحت «حرا» أخيرا!!! «من يستطيع أن يمسك بي الآن؟»، «يمكنني أن أهرب»، و»يمكنني فعل أي شيء سيئ»، ولا يوجد أب يجلدني (كان يؤمن بالضرب بحسب فهم حرفي للإنجيل). ولن يكون الآن هناك أي أب ليقيمني ويحاكمني. ولم يكن يهمني تقييم أو محاكمة أي شخص آخر في العالم مهما كان قويا ومؤثرا. من الذي ينبغي أن يقيمني ويحكم علي الآن؟ «أمي»؟؟! بالتأكيد، لكنها كانت باستمرار أكثر سخرية واعتدالا وليونة، بحيث حتى لو قالت حكما سلبيا، فإنه لا يهمني ولا يؤثر فيني مطلقا. لأني اعتدت منها على السخرية والليونة.

عدت إلى المنزل لحضور العزاء، ولكن كان بداخلي ذلك «السر القذر والحقير» الذي كان يجعلني أشعر، بعد وتحت جميع مشاعر الرعب والهول لموت أبي، أنني «مسرور». لكن ذلك الشعور لم يستمر لأن مشاعر الخوف وأسئلة المستقبل الصعبة هاجمتني جميعها فورا وقفزت إلى مقدمة تفكيري مثل: «كيف سنعيش الآن؟»، و»هل سنكون فقراء؟»، و»هل سيكون لدينا ما يكفي من الطعام؟»، والأهم: «من سيدير ورشة أبينا لصنع الصنادل الخشبية (قباقب، جمع قبقاب)، التي حتى لو استمرت في العمل، لم تكن ستجعلنا في أفضل الأحوال نأكل اللحم سوى مرة واحدة فقط في الأسبوع، ونأكل بقية الأسبوع: مرقة الخضار، والخبز، والبيض؟!!

كنت مع أخي مشهورين بأننا مقاتلين جيدين ضمن أطفال الحارة في مدينتنا. كنا نخوض تقريبا يوميا معارك ملاكمة بالأيدي، ومباريات مصارعة نطرح فيها خصومنا أرضا، وهلم جرا، وكنا نمارس تلك المشاغبات غالبا كرياضة واختبار للقوة والمهارة، وأحيانا لدواعي الغرور وتحقيق بعض العدالة في الحارة (كنت إذا رأيت فتى يعذب قطة، أهجم عليه). وبعد وقت قصير من وفاة والدي، خضت معركة اعتقدت أنه كان يجب أن أفوز بها، ولكن فجأة عندما تذكرت وفاة أبي، أصبحت بطيئا وشعرت بالرعب من احتمال خسارتها!! وهكذا وجدت نفسي تحت ذلك الصبي، الذي كان يضرب رأسي بقوة على دكة جلوس من الأسمنت في ملعب لكرة اليد. وخسرت معركة أخرى للملاكمة بعد ذلك بقليل. قد لا يكون «ضعف الثقة بالنفس» هذا مرتبط بالضرورة مع وفاة الأب، ولكنه في نظري يبدو شائعا ومشتركا إلى حد كبير بين من فقدوا آباءهم.

مر أخي بالأزمة نفسها. ترك القتال في الحارة وبدأ هواية العزف على الغيتار. ثم أخفى نفسه في البدروم ليعزف عدة ساعات دون إزعاجنا، ثم صار يريد أن يمتهن عزف الغيتار ليصبح موسيقيا محترفا، ولكنه لم يجد تشجيعا كافيا لذلك. ولكنه، رغم ذلك، أجاد العزف وبرع فيه حتى دعي للعزف في واحدة من أفضل فرق موسيقى الروك في يوغوسلافيا، ولكنه اعترف لي بأنه لم يحضر في أول حفلة لأنه تذكر بحزن وفاة والدنا مما سبب له فوبيا (رعب) من الوقوف على خشبة المسرح. ثم ترك المدرسة الخاصة التي يدرس بها وأصبح عاملا في مصنع، ثم فكر بحكمة، وواصل نشاطاته الانطوائية المتنوعة إلى أن حصل مؤخرا على درجة الدكتوراه من كلية برينستون لعلم اللاهوت المرموقة في أمريكا. ولكنه يقول لي دائما بأنه متأكد جدا بأن مسار حياته كان سيختلف نحو الأفضل لو عاش أبينا لما بعد فترة مراهقتنا.

المغرب
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة