Culture Magazine Thursday  07/10/2010 G Issue 318
فضاءات
الخميس 28 ,شوال 1431   العدد  318
 
مدارات الصمت
نورة القحطاني

«الصمت علامة الرضا» و«الصمت حكمة» و«الصمت ضعف» و«الصمت وقار»... كل العبارات السابقة حملتها ثقافتنا العربية لتتعدد دلالات الصمت، فهو يعبر عن الغموض، والكبرياء، والوقار، والمجهول، وقد يكون التأمل، والحلم، والذكريات، والحنين. وتتسع دلالة الصمت لتشكل معطيات دلالية لمساحات مفتوحة وربما مفاهيم لا نهائية لمدارات مختلفة يشكل فيها الصمت البنية الأساسية، وفي مشهدنا الإبداعي العربي أمثلة كثيرة لنصوص شعرية وسردية برزت فيها سلطة الصمت على مستوى المفردة والحدث والشخصية مثل: الحلم، والغياب، والعزلة، والخوف، ومصادرة الرأي، وغيرها العديد من الرموز الدلالية التي يتتبعها الناقد للكشف عما هو مغيّب ومضمر داخل المستوى الحضوري للدلالات، ولكني هنا لن أتحدث عن الصمت داخل النصوص الإبداعية فهذا موضوع بحث آخر قد أشرت إلى جزء منه في قراءة لبعض الروايات السعودية، بل أريد قراءة دلالة الصمت في ثقافتنا العربية، فعندما نشير للصمت كعلامة للرضا والقبول نتحول من لغة الكلام إلى لغة الإشارة الصامتة أو قد تكون قراءة تأملية عميقة لوجوه الآخرين حتى أعلم إن كان صمتهم يعني الرضا أم العجز عن المواجهة والخوف من عواقب الكلام، لا يعطيني الصمت هنا دلالة أكيدة على القبول إلا إذا امتزج بتعبيرات جسدية معينة تحمل معنى الفرح والرضا، أو العكس تحمل معنى الحزن والرفض، ثقافتنا التي أطلقت معنى الصمت على الرضا هي ذاتها التي استخدمته كسلاح قضت به على كثير من أحلام أبنائها، فالصمت نفي للوجود وفرض لسلطة واحدة وصوت واحد، وعندما يحاول الكائن الصامت الخروج عن حيز صمته إلى حيز الصوت؛ ليعلن عن وجوده بمواقف مضادة لسكونه تكسر مظاهر الصمت وتتحول إلى فعل مواجهة لتأكيد الحضور تمتد آلات السلطة الأعلى أيًا كانت (سلطة الصوت الواحد) لتحبط كل محاولة لكسر حاجز الصمت، وثقافتنا حملت لنا أمثلة عديدة لعلماء وأدباء وفلاسفة راحوا ضحية خروجهم عن صمتهم، عندما كان صمتهم علامة رفض وغضب انتهى بالكلام ورفع الصوت للتعبير عن رأيهم بجرأة وشجاعة كانت سبباً في تعذيبهم أو قتلهم وفي أحسن الأحوال سجنهم، ونحن الآن في عصور ما بعد الحداثة هل ما زال الكلام يحمل لعنة على صاحبه؟ وفي ظل مساحات كبيرة للتعبير عن الرضا أو السخط هل ما زال الصمت علامة على الرضا؟ وهل باستطاعة سلطة الصوت الواحد أن تمنع الراغبين في كسر قيود صمتهم من دخول أرض الكلام؟ أشك في ذلك فلم يعد الصمت دليلا على الخوف أو الضعف إلا باختيار صاحبه.

ولكن رغم ذلك يظل للصمت هالة جمالية تحمل الحكمة والوقار كما قال ابن المقفع عندما وصف صديقًا له: «كان أكثر دهره صامتا، فإذا نطق بذّ الناطقين» فالصمت هنا دلالة الحكمة، وقد تختاره في مواقف كثيرة ليس لأنه لا يحضرك الجواب بل لأنك من العقلاء وفي مخاطبتك لبعض السفهاء انتقاص من هيبتك وذهاب لوقارك وما بيت الشعر القائل:

إذا نطق السفيه فلا تجبه

فخير من إجابته السكوت

إلا تعبير عن فضل الصمت في بعض المواقف، ولو استعرضنا كثيرا من قضايا المشهد الثقافي الآن لاختار العقلاء الصمت في ظل اختلاط الصادقين المخلصين بالمنافقين اللاهثين وراء الشهرة والمصالح! وهذا ما فعله بعض المثقفين الذين اختاروا البعد بصمت من دون إثارة أو إعلام، فضلوا الاحتفاظ بالبقية الباقية من صدقهم ونقائهم على أن يكونوا ضمن جوقة المنافقين الذين يرفعون شعارات الفكر والحرية والحوار وهم أول من يمزقها ويسير فوق أشلائها عندما تنتصر المصالح على حساب الفكر والثقافة، عندها لا تملك إلا الصمت دهشة عندما تتحول الثقافة والأدب سلعة للمزايدة في بيئة لم تعد تحمل من شعارات الفكر إلا قصاصات متناثرة، عندها سيكون الصمت دلالة القوة والحكمة والجلال والوقار، سيختار الأقوياء ركنا قصيا بعيدا عن التلوث ليتنفسوا هواءً نقياً ليكتبوا لنا وللغد عن ثقافتنا الحقيقية، ليصفوا جمال لغتها، وتفرد أدبها، وجواهر بلاغتها. تلك مفارقة عجيبة تجعل الصمت قوة وتحوله إلى سلطة يستمتع صاحبها بممارستها في مواقف باختياره هو، وكما يتأمل المتلقي اللوحات الفنية والتشكيلية الصامتة ويستنطق دلالات رسومها وألوانها، فإن صمت المثقف أحيانا يمنحه فرصة التأمل في المشهد الثقافي ليستنطق قضاياه ويحدد موقفه منها. وسواء اتفقنا مع هذه الرؤية للصمت التي قد تعني: الحكمة والقوة وقدرة المتلقي على تحويله إلى سلطة، أو اختلفنا مع المعنى الثاني من الرؤية التي تعني: الفشل والإحباط والعزلة؛ يبقى الصمت عن الخوض في بعض المواقف مظهراً ثقافياً يعكس الواقع المأزوم لثقافتنا المعاصرة، ويظل الصمت كذلك قضية إشكالية تحمل مجالات دلالية واسعة.

لندن
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة