Culture Magazine Thursday  11/02/2010 G Issue 298
فضاءات
الخميس 27 ,صفر 1431   العدد  298
 
(فخاخ الرائحة): التحايل السردي
في ضوء نظرية الأنماط الأولية-2-
د. لمياء باعشن

يرى هذا النقد أن التصورات الميثولوجية الكامنة في اللا وعي الإنساني تُشكّل بالضرورة وظائف وأسلوب وطرق صياغة تلك الأعمال الإبداعية، بل إن معنى النص مرهون بمكوناته النفسية والثقافية. وتعاود تلك الأنماط المتوارثة الظهور مرات ومرات وتتجسد على سطح الوعي.. إما على شكل شخوص.. أو موتيفات.. أو رموز تدخل كلها محمّلة بالمعاني والإحالات الغنية إلى ثنايا النصوص لتعطيها زخماً هائلاً من المرجعية والتأويل.. وتنقسم الأنماط الأولية إلى شخصيات مثل: البطل والأم والحكيم والشيطان.. وإلى حبكات مثل: التهيئة والنضج والموت والانبعاث والصحراء والطقوس.. وإلى صور رمزية مثل: الماء والدائرة والثعبان والألوان.. والمحتال إحدى الشخصيات الأنماطية التي استبقتها كل الثقافات البشرية ونوّعت على قالبها الأصلي.

تفحص هذه الورقة رمزية الاحتيال في رواية (فخاخ الرائحة) للروائي «يوسف المحيميد» من المنظور الأركيتايبي اليونجي، فالشخصيات ذات الحضور الرئيس في الخطاب السردي عند «المحيميد» تقترب في تكوينها وحضورها من أن تكون احتيالية بامتياز.. (فخاخ الرائحة) كنص احتيالي يزخر بالاحتمالات، وتستخدم الاحتيال كموشور تجتمع في بؤرته ملامح الثقافة المحلية السائدة بما فيها من اهتمامات بمسائل الهوية الذاتية والطبقية وصراعاتها المادية وأخلاقيات المنظومة الاجتماعية.. ومن خلال الاشتغال على فكرة تعالق نص المحيميد مع أنماط ميثولوجية عتيقة وتشكّلها وفق نماذجها، سيجري تقصي العلاقة الرابطة بين الشخوص والصور الرمزية والوحدات السردية وتحدي استقلاليتها وانفصالاتها الظاهرة.

ظل المحتال فاعلاً في آداب الشعوب في حقب زمنية مختلفة وتمت إعادة اختراع وظائفه الثقافية مراراً.. لكنه ما زال جاذباً لمخيلة البشر.. وفي هذا الاستمرار لوجوده تأكيد واضح على مركزيته في تحريك الراكد وتنبيه اللا وعي.. وفي حضوره الاستنساخي يظهر ككائن ميثولوجي ذي شخصية تملصية مزدوجة يصعب القبض عليها في انفرادها وتأملها على حدة لأنه في حالة تحول مستمرة، وتصنيفه الدقيق محير لأنه تمثيل نمطي لمزيج bricolage من الأفكار والخصائص والميول المتداخلة، بل هو مفهوم مجرد يجمع بين صفات متنافرة.. مع ذلك فإن للمحتالين خصالهم الأولية المشتركة، وهي خصال تنطبق على شخصيات رواية المحيميد بشكل واضح ومدهش.

المحتال شخصية زئبقية معقدة تجمع بين المتناقضات، يطبعها الالتباس والازدواجية وتميل إلى الخداع وإثارة الشغب، لذلك فالمحتال يكون دائماً بطل النص المضاد أو نقيض البطل المطلق، فهو وإن كان مغامراً ذكياً يكسب قوته بالشطارة والاحتيال ويستطيع الخلاص من المآزق والبقاء على قيد الحياة، إلا أنه شخص هامشي متشرد متصعلك، ومغامراته الشطارية تتمثّل في مقاتلة الوحوش بحثاً عن الطعام لإشباع الغريزة الأولية من أجل المحافظة على البقاء ومقاومة الانقراض، لذا فهو يخضع لأهوائه وغرائزه.. والمحتال شخص متبرم ثائر وكثير اللعن والتململ منتقد حتى لنفسه، فهو رافض للتواصل الإنساني في إطار مجتمعي منتظم الانسجام لعدم قدرته على التواؤم مع سلبية الواقع وتضاداته، لذا فهو يعيش في غربة وعدم استقرار لأنه دائم الحركة والترحال يتنقل من مكان لآخر، يتجول على حواف المجتمع.

أما انقطاعه عن أصوله فيجعله بلا جذور ولا قيم أو مبادئ أو روابط اجتماعية تردعه عن أن يصبح لصاً محترفاً وقاطع طرق.. يعيش المحتال على الحدود ما بين العوالم وتقاطعات الطرق لأنه يكره الحدود المرسومة، وعمله على تخطيها، يضعه في مواقف حرجة مع خصوم أقوى أو أكبر سلطة منه، كما يضع هو نفسه في محل التهكم، فيتحوَّل إلى مهرج يتسلى به الآخرون في لحظات سأمهم وضجرهم، وهو ليس بغافل عن جوانبه المثيرة للسخرية.

يظهر دائماً في النصوص التي يكتبها الأقليات المضغوطة في بحثهم عن الهوية والانتماء كتكنيك للمحافظة على الحياة وتجنب الضياع والإبادة في منظومة ضاغطة، وكوسيلة دفاعية للحفاظ على الهوية والثقافة المهددة بالتلاشي والانقراض حين يتكالب عليهم النهش من بشر لهم ضراوة الوحش.

يُمثّل المحتال قوة الفوضى المدمرة لمنظومة اجتماعية تسمح بالاضطهاد والمحطمة للقيم الموروثة.. هو منشق يرفض الانطواء تحت لواء التوقعات المجتمعية ولا يداهنها.. بل يثور ضد السلطة ويوضح مساوئ التنظيمات النسقية للمجتمعات الانسانية ويكشف قصورها وزيفها، ويدفعنا لمساءلة ما حاز على القبول الأعمى من أفرادها بممارسته كل ما ترفضه ثقافته وتحرمه على أفرادها.. هذه الفكرة فوضوية تقويضية تعمل ضد التصنيف الخانق في ظل نظام اجتماعي مهيمن.. وتدعو إلى مراجعة مسلمات الثقافة وتقويم الأنساق وخرق كل التابوهات العنصرية للقضاء على وجود الجوانب الفاصلة التي تخلقها العلامات الإثنية فتسمح بأشكال استرقاق البشر.

وهو ليس مجرد شخصية.. بل أداة خطابية تسجل موقفاً قوياً وتعمل كمعادل تسوية لفكرة التناقض المرتبطة مباشرة بالحدود التي تخلق المفارقات.. حيث تختلف كل كينونة عن غيرها وتناقضها.

من الواضح أن طراد وتوفيق وناصر يشتركون مع المحتال في كل هذه الصفات، وزيادة على ذلك بقي هنالك ثلاث صفات أساسية تجمعهم مع هذا المخلوق البدائي، الفقد والتخفي وانشطار الهوية.. تُشكّل المفقودات العضوية لُحمة النص الأساسية.. فالأذن المبتورة والعين المفقوءة والذكورة المخصية تتحول إلى محركات رئيسة داخل الرواية وتكرارها كلازمة سردية يجعلها تمثل رغبة الشخصيات في الاكتمال، فهي نقص يمثل عاهات وتشويهات مصحوبة بأزمات وصدوع في الهويّة.. يعيش شخوص هذا السرد تأزماً نفسياً يعرضهم لنوع من التفتت والتشظي ويشهد التعدد الاسمي على بعثرة وتشعب هوياتهم، (بعد انتهاك توفيق يجري انقسامه إلى حسن وتوفيق، وطراد يصبح أبو لوزة وهكذا..).. وهنا تظهر ضرورة التخفي ولبس الأقنعة لإخفاء العيوب.. (طراد يلف شماغه حول وجهه بإتقان ليخفي أذنه المقطوعة، ويقترح على ناصر ارتداء نظارة سوداء تخفي عينه المفقوءة).

وفي عالم الميثولوجيا يمتلك المحتال أقنعة شتى تساعده على التنكر لأسباب دفاعية أو لأسباب عدوانية، حتى إن جوزيف كامبل سمّاه في كتابه الشهير: البطل ذو المائة وجه، فالتنكر المستمر هو بعينه شخصية المحتال.. يعمل القناع كستار الخداع والتضليل والتلبيس الذي يمنحه صبغة الغموض والازدواجية.. وهنا يظهر رابط قوي بين شخوص الرواية والمحتال والمهرج الذي يخفي ملامحه خلف قناع ضاحك أو باكٍ، ليزاوج بين دراما المأساة والملهاة.. والأقنعة تشويه يخفي تشوهاً، فالشخصيات في الرواية يأخذون هيئة مسوخ تقارب في مجموعها مهرجي السيرك أو شخوص الكرنفالات الضخمة والشائهة، كما يرى باختين.

وعلى ذكر الازدواجية يتبين لنا أن المحتال يقفز بطبيعته بين الخطين، فهويته متحولة، مائعة ومنقسمة على ذاتها.. وهنا نقترب من الطعم الذي ينتظرنا في نهاية النص، فالهوية المتحولة تقترح في ظل التفسير الأركيتايبي النفسي أن شخوص النص ليسوا سوى انقسامات لذات واحدة، وتعدد الشخصيات هو سمة مرتبطة بالمحتال multiple personality تصل هنا إلى ذروتها لتحقق فصاماً عنيفاً.

lamiabaeshen@gmail.com جدة
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة