Culture Magazine Thursday  11/02/2010 G Issue 298
فضاءات
الخميس 27 ,صفر 1431   العدد  298
 
كلمات:
خناطل!!
محمد بن أحمد الشدي

سكنت مع العمال وقد كانوا فعلاً كما ذكر صديق والدي كانوا طيبين وبسطاء وقد أحاطوني بكل عناية ورعاية فلم أشعر بالغربة بل بدأت أسترد ثقتي بنفسي وكأنني بين أهلي.

كانت النقود التي أعطاها لي أبي ما تزال معي وفكرت أن أتعرف على الرياض التي كانت قد بدأت في التمدد والاتساع ولكن بشكل بطيء.

وكان قد مضى على فراقي لأبي عشرة أيام فتوقعت حضوره إلى هنا كما أخبرني فذهبت إلى السوق لعلي أجده قد حضر.

حمد.. حمد:

طرق الصوت الرقيق العذب أذني وكأنه المطر ينزل على أرض عطشى من أين يأتي الصوت، إنه صوت زاهرة.. صوت زاهرة في دمي أعرفه ولو بعد ألف عام وتلفت كانت زاهرة.. تسير وراء امرأة حاملة سلة صغيرة بها بعض الحاجيات، كدت أهرول إليها ولكنها أشارت لي أن أنتظر.. لماذا؟

ودخلت المرأة في دكان فتقدمت زاهرة مني وسلمت عليّ بيدها الصغيرة الناعمة، ثم قالت: هذه امرأة عمي ولا أريد أن ترانا. قف هنا.. وسر خلفنا حتى تدل البيت، إنه في محاة (خناطل). إننا أبناء الصحراء إننا نبات الصحراء.. النبات الصغير الذي يتحدى الشمس والهجير والجفاف والموت، وإلا فكيف سنعيش ونقاوم ونستمر على قيد الحياة، الطفل الصغير يجب أن يتعلم مبكراً كيف يكون شاباً، والشاب كيف يكون كهلاً قبل فوات الأوان، لهذا نعيش.. لهذا تعيش نباتات الصحراء الصغيرة رغم أصعب وأقسى الظروف!

أنا أعرف وعمري ثلاثة عشر عاماً، أحاول أن أعمل، أتحمل مسؤولية الرجال، أرفض أن أذل لأحد حتى ولو كان ابن التاجر الثري أشبعه ضرباً وركلاً ولطماً.

زاهرة!! ثمان سنوات والفتيات اللواتي في عمرها لا يزلن حديثات عهد بالحليب الذي رضعنه من أثداء أمهاتهن، ومع ذلك تدرك زاهرة أن عليها ان تتفادى انتباه الآخرين وعيونهم! تدرك أنني يجب أن

أعرف أين هي، وأين تقيم، تدرك كيف تدلني على بيت عمها دون أن تعرف امرأة عمها ذلك، هي تعاملني كأخ لها ولكنها لم تدرك بعد احتجاج من حولها.. ثمان سنوات فقط.. يا إلهي ما أروع نباتات الصحراء.

وقفت بعيداً وهمست لنفسي بألم: الحال من بعضه يا زاهرة أنا خادم وأنت خادمة وفي وقت واحد كيف يحدث هذا ونحن ما خلقنا له؟! خادم صغير وخادمة صغيرة.. عصفوران صغيران تعصف بهما الرياح والأعاصير قبل أن ينبت الريش على الجناح!

وخرجت المرأة وسارت بكل أبهة بعد أن وضعت ما في يدها من علب في سلة الصغيرة.. لا زاهرة لا تحملي السلة يا زاهرة، ألقها من يدك تلك الحلوة الصغيرة.. دعيني أحملها عنك إذا لم يكن بد من ذلك ليحملها قلبي عنك يا زاهرة يا أجمل طفلة في هذا العالم!

ومشيت وراءهما وقليلاً.. قليلاً.. عرفت الدار بعد توهم.

(الفصل الأول)

ظهرت نتيجة امتحان الشهادة الابتدائية ونشرت في الجرائد وسررت لنجاحي سروراً كبيراً، وكان عليّ أن أبشر زاهرة، فهي ستفرح لذلك كثيراً.

وذهبت إلى البيت الذي تقيم فيه زاهرة وفعلت كما أخبرتني أن أرمي حجراً على الشينكو في الخرابة المجاورة، فتسمع الصوت وتخرج للقائي!

وفعلت وانتظرت، ولكن زاهرة لم تخرج مرة أخرى ومرة ثالثة ولم تخرج.. لماذا؟ هل هي غير موجودة، هل هي مريضة، ولكن يجب أن أراها لكي أبشرها بنجاحي! وأعدت الكرة مرات ومرات بصبر فاقد ولكن دون جدوى!

وبقيت أحوم في الشوارع حول بيت زاهرة، لابد أن أراها.. وأخيراً يئست فعدت إلى سكن العمال في خناطل بالقرب من عتيقة والمنقع يملؤني الهم والحزن، لقد كانت زاهرة تعلم بمجيئي من أول حجر يسقط على الشينكو الذي تصدر عنه فرقعة عالية.. ولكني فعلت ذلك مرات ومرات حتى لاحظ بعض المارة ما أفعل فنهرني كصبيّ شقي!

جلست بين العمال صامتاً، وفي يدي الجريدة فسألني العجوز اليمين قايد عما في الجريدة، فقلت له وأنا أفتعل الفرح لقد نجحت يا عم قايد نجحت في الشهادة الابتدائية، وهذا هو اسمي منشور هنا مع الناجحين!

هب العجوز واقفاً واحتضنني وهنأني وراح يصيح في العمال تعالوا هنئوا محمد.. محمد نجح. ما شاء الله ماشاء الله وهرول العمال نحوي وراحوا يهنئونني ويباركون لي وهم يضحكون وتفيض شفاههم وعيونهم بالبشر والسرور، ثم قال العم قايد: لقد نجح من المعهد العلمي في (دخنة) وصاح الجميع.. لازم نحتفل.. لازم!

وأعطى العم قايد أمره لبعض الشباب، فانطلقوا إلى السوق وأحضروا ذبيحة ورز فورة أو هورة وصلصة وبصل وكل اللوازم، وطبخوا وأكلنا جميعاً بمرح ثم تناولنا البطيخ ثم الشاهي وكان الوقت عصراً والجو جميل!!

الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة