Culture Magazine Thursday  15/04/2010 G Issue 306
فضاءات
الخميس 1 ,جمادى الاولى 1431   العدد  306
 
أمام مرآة «محمد العلي»
«الحداثة» ومأزق التسميات
علي الدميني

يحفل الجزء الثاني من الكتاب الذي أنجزته الأستاذة عزيزة فتح الله «محمد العلي - مفكراً وشاعراً» بشهادات عدد كبير من مثقفي وشعراء وكتاب المملكة، تكاد أن تتفق في غالبيتها على أن «محمد العلي» هو أحد أبرز رموز حداثتها الفكرية والشعرية».

وهو عندي كذلك، ولكن كيف نحلل التناقض الصوري «ما بين تأكيدنا على رمزية «محمد العلي» كأحد رواد الحداثة في بلادنا، وبين عدم اشتغاله على موضوعة «الحداثة» - كمفهوم وتجليات - بل وحتى عدم استخدامها كمصطلح في أغلب كتاباته ودراساته؟

مأزق التسميات، سيكون مفتاحي لمقاربة هذه الإشكالية، ذلك أن محمد العلي، وبحسب المقومات التنويرية الأساسية لمفهوم الحداثة، من حيث العقلانية، والحرية، والعدالة، والمساواة، والإبداع المختلف، هو حداثي وتنويري حتى العظم، وقد تجلت هذه القيم جمالياً وفكرياً في شعره ودراساته، وممارسته الحياتية (كما أوضحت ذلك الحلقات السابقة)، ولكنه آثر لأسباب عديدة، التحفظ على استخدام مصطلح «الحداثة»، لماذا؟

لأن مصطلح «الحداثة» وقيمها ومفاهيمها، قابلة لتعدد التعاريف و»التسميات»، حتى درجة التعارض، من حيث هل هي حاجة وفعل سيرورة تاريخية، تنزع إلى تجاوز أسر التقليد، بحثاً عن آفاق ووعود الجديد، الذي يستجيب لاشتياقات الإنسان (فرداً أو مجتمعاً) في كافة المجالات؟ أم أنها نتاج مرحلة حضارية محددة تجلت في الحواضر الأوربية، مترافقة مع الثورة الصناعية، وفتوحات البحث العلمي، وثورة التقنية، وحداثة الفكر وآليات ترسيخ قيم ثقافة الديمقراطية ومستلزماتها السياسية؟

وهل الحداثة وريثة قيم التنوير التي تركزت حول «العقلانية، والعلم، والمرجعية البشرية للمعرفة، وحقوق المواطنة»، أم أنها حداثة «الشكل» التي تجلت في الآداب والفنون بشكل أكثر بروزاً؟

وهل هي حداثة التطور الرأسمالي الباحث عن»الربح» فقط، أم أنها حداثة «الماركسية» التي سعت إلى تحقيق مفاعيل «العدالة الاجتماعية»، مغفلة وجود الذات الفردية؟

وهل هي قطيعة مع «التراث» أم أنها رؤية نقدية له، وحوارية مع يتضمنه من بذور «حداثية»؟

تشابك الأسئلة:

هذه أسئلة متشابكة الحقول، ولا يمكن الإحاطة بمقاربتها في وقفة قصيرة كهذه، ولكنني سوف أتوقف أمام المحطات التالية المرتبطة باشتغالات محمد العلي:

* - كثير من الباحثين العرب، ذهبوا لقراءة التراث العربي، وفق مسارات واستهدافات متعددة: منها البحث عن مرتكزات العقلانية في التراث، ومنابع تجليات الحداثة الشعرية والنقدية، (ضمن ظروفها الزمنية المحددة)، باعتبار «الحداثة» فعل سيرورة.

ومنها ما ينصب على ضرورة تشغيل مفاعيل الحداثة المعاصرة على التراث بغية فتح مغاليقه على إمكانات قراءات جديدة تستجيب لتحديات واستحقاقات العصر.

ومنها بحسب د. برهان غليون «سعي الأطراف السياسية (والفكرية) المتنازعة على مصادر الشرعية، إلى تأكيد اعتقادها أو نفي اعتقادات الأطراف الأخرى، عبر التراث» (قضايا فكرية، الكتاب 29 – ص121).

يقول محمد العلي في حواره مع مجلة النص الجديد: إن الحداثة ليست شيئاً سوى (التطور) والارتقاء على الذات، وانتقاء الإيجابيات في التراث وتعميقها لإغناء الحاضر (العدد الأول 1993م).

أما حسين مروة في جهده الكبير في كتابه «النزعات المادية» (الصادر عام 1978) فقد عمل على اكتشاف بذور العقلانية والمرجعية الواقعية للمعرفة في الفلسفة العربية والإسلامية لدى فقهاء المتكلمين ولدى الفلاسفة العرب من أمثال الكندي والفارابي، وابن خلدون وابن رشد، وغيرهم، من أجل تطوير أسئلتها في راهنية زماننا المعاش.

كما اشتغل «أدونيس في كتابه «الثابت والمتحول –صدمة الحداثة»، (الصادر في 1978م أيضاً) بتحديد مرتكزات الثابت المحافظ في ذلك التراث، مثلما وقف على عناصر «المتحول» النامية فيه، حيث يقول: يمكن القول أن التعارض في المجتمع العربي، بين القديم والمحدث، يرقى على الصعيد السياسي- الاجتماعي، إلى القرن السابع الميلادي... ومبدأ «الحداثة» من هذه الناحية، هو الصراع بين النظام القائم على السلفية، والرغبة العاملة لتغيير هذا النظام. وقد تأسس هذا الصراع، في أثناء العهدين الأموي والعباسي، حيث نرى تيارين للحداثة: الأول، سياسي - فكري ويتمثل من جهة في الحركات الثورية ضد النظام (الخوارج، ثورة الزنج، القرامطة،.. الخ) ومن جهة ثانية، في الاعتزال والعقلانية..». أما التيار الثاني «ففني»، يهدف إلى الارتباط بالحياة اليومية، كما عند أبي نواس، وإلى الخلق لا على مثال، كما عند أبي تمام.... وهكذا تولدت الحداثة، تاريخياً من التفاعل أو التصادم بين موقفين أو عقليتين.. ومن هنا وُصِفَ عدد من مؤسسي الحداثة الشعرية «بالخروج» (صدمة الحداثة - ص 9،10، 11).

* (ص 16-17).

الحداثة سيرورة أم قطيعة؟

* - الحداثة - بحسب هذه الآراء - سيرورة في التاريخ، كانت جنيناً حلمياً، يبحث عن تحقيق ذاته الشاملة، عبر طرائق وفضاءات مختلفة، ولم يستطع التعبير عنها بشكل فاعل ومستمر إلا بشكل فردي عبر تجلياته الفكرية والفلسفية والإبداعية، ولم يتحول هذا التشوف إلى حالة عامة وفعل حضاري مختلف ومؤثر في حياة المجتمعات، إلا بعد قرون عديدة، تجلت في أوروبا خلال القرون الثلاثة الماضية، وكانت ثمرة للجهود والنضالات والتضحيات التي قدمها آباء النهضة، والتنوير، من أمثال «روسو، وفولتير، ومونتسيكو، وغيرهم»، حيث ارتكزت على قيم العقلانية، والعلم، والمرجعية الإنسانية للمعرفة، والتفكير النقدي، وما تمخض عنها من عناوين أسست لحقوق المواطنة، وحقوق الإنسان، والحرية، والعدالة، والديمقراطية، كحوامل قانونية ومؤسسية، لكل تلك العناوين، وجاءت الثورة الفرنسية، في عام 1789م، كأولى ثمارها، حيث رفعت شعارات «الحرية والإخاء والمساواة».

* - ونظراً للطبيعة الفردية المنتجة للإبداع، فقد حققت الحداثة في أوروبا، في حقول الآداب والفنون أكثر من سواها من الحقول، أوضح تجلياتها المبتكرة، وتمركزت حول «شكلانية «الدال بذاته» الذي يفرغ المحتوى من محتواه والمضمون من مضمونه، والدلالة من مدلولها (د. منذر عياشي - مقدمة كتاب الحداثة 1 - ص 9)، وبرزت قطيعتها مع الماضي، من خلال المدارس الفنية التشكيلية مثل «الدادية» و»السريالية»، وفي حقل الشعر في فرنسا، منذ إبداعات «بودلير» لقصيدة النثر.

* - بالرغم من مرتكزات كثيرة تضع «الماركسية « كإحدى تجليات الحداثة في أبعادها الإنسانية كالمساواة والعدالة الاجتماعية - ضداً على الرأسمالية - وفي مقوماتها الأخرى الفكرية والفلسفية، مثل العقلانية والعلمانية، والحرية، إلا أن الأنظمة السياسية التي قامت على أسس ماركسية منذ ثورة أكتوبر عام 1917م في روسيا، قد نظرت إلى حداثة الفنون والآداب، بشكل معاكس لمضمون الحرية الإبداعية، وفي هذا الصدد يقول واحد من أبرز النقاد الماركسيين «لوكاتش» بأن «الحداثة الأدبية نوع من البرجوازية الجمالية المتأخرة النابعة من الواقعية» (كتاب الحداثة 1- مالكوم برادي - ص 23).

* - وفي هذا الصدد، ومن زاوية نظر أخرى، يشير د. منذر عياشي في مقدمته لكتاب الحداثة، في فقرة عنونها ب»الحداثة والفوضى» إلى أن «حركة الفن بكل أشكالها التعبيرية، أرادت أن تنخلع من الماضي إذن، ولكنها أرادت ذلك لكي تكون على غير مثال.. بغية تطوير الحياة والسير بها ومعها نحو عوالم كانت غير معروفة... فأحدثت ثورة في الموسيقى والرسم والشعر والرواية، ولكنها إذ خرجت من الماضي وتعرّت منه، وجدت نفسها بما أحدثته تسير نحو «لا اتجاه» (ص 9).

* - جراء الارتكاسات الكثيرة في أزمنة التنوير والحداثة، من مسيرة الثورة الفرنسية عام 1789م، وما حدث في القرن العشرين من حربين عالميتين، قامتا نتيجة لوصول أحزاب «شوفينية» (باسم الحداثة السياسية) إلى سدة الحكم، وما جرى كذلك من قمع لأدباء وفناني الحداثة في الدول الاشتراكية، فقد ذهب كثير من المفكرين والنقاد إلى مراجعة أخطاء الحداثة.

وفي هذا السياق تبرز جهود فكرية ونقدية عديدة، تهدم ما أسمته ب»أوهام الحداثة» ومنها مواقف منظري مدرسة «فرانكفورت المعروفين»، ومنظري تيار ما بعد الحداثة ومنهم فرنسوا ليوتار، الذي يصف الحداثة - بسخرية - بأنها قد أصبحت «إحدى الحكايات الكبرى»، أي بمعنى أنه لم يعد من مفاهيمها المؤسسة لكل ما هو عقلاني، وجديد ومتطور، وعلمي.. أي وجود على الإطلاق.

ولكن «هابرماس» يقف منهم موقفا مغايراً، حيث يرى أن الحداثة لم تنته بعد، ولم تستنفذ إمكاناتها بعد، في أبعادها العقلانية والأخلاقية، ويمكن لها استئناف دورها كحركة تنوير كبرى، إذا ما تخلصت من تحالف العقلانية مع أداة القوة والعنف، التي جعلت الحداثة الغربية عقلانية «أداتية» سلطوية، تنهض على حساب الإنسان والمجتمع والتقدم، من أجل الربح وحساباته المادية الواسعة (مازن لطيف علي - الحوار المتمدن - 9-1-2009م).

* (أدونيس - الثابت والمتحول –ج1- ص 19).

** ** **

صراع السياسي والثقافي على احتياز «الحداثة»

على ضوء المداخل والقراءات المتعددة لمصطلح «الحداثة» ومرتكزاته المفاهيمية التي حققت وجودها بأشكال مختلفة في أوروبا خلال قرنين من الزمن، كانت تصطخب العواصم الثقافة العربية (القاهرة، بيروت، بغداد، دمشق) ومنذ مطلع القرن العشرين، بمواقف متباينة من الحداثة، في كافة أبعادها السياسية والفكرية والإبداعية.

فمنذ خمسينيات القرن المنصرم، تم اختزال البعد السياسي والفكري «للحداثة»، فيما تطرحه الأحزاب العلنية والسرية (القومية واليسارية والدينية) في الحكم الشمولي للحزب الواحد وشعاراته «الحرية، والوحدة، والاشتراكية» بالنسبة للطرف الأول، وما ترفع لواءه الأحزاب اليسارية من شعارات الانتصار للطبقة العاملة، وما تصفه الأحزاب الدينية ب»جاهلية القرن العشرين» وضرورة قيام دولة الخلافة الإسلامية.

وقد غاب عنها جميعاً (أحزاباً ومفكرين وأتباع) مبدأ الإقرار بالديمقراطية والتعددية السياسية والفكرية والثقافية.

أما في ساحة الآداب والفنون في تلك العواصم، فقد انقسمت بين تيار النهج المحافظ وتيارات الالتزام الأدبي وفق رؤى السياسة المتحزبة، وبين تيار «الحداثة» الأدبية غير الملتزمة بنهج أيديولوجي محدد.

وقد تشكّل وفق خارطة هذه الصراعات، تحالف غير معلن وغير مبرمج، بين تيارات المحافظة والالتزام، للوقوف ضد تيار المدرسة الحداثية، التي كانت بيروت مركزاً لها، عبر مجلة «شعر» ومجلة مواقف، ومجلة حوار، وما يطرحه منظروها من أطروحات نقدية وإبداع شعري، ومن أبرزهم «أدونيس»، تمحورت حول مرتكزين أساسيين، هما:

الحداثة الإبداعية هي كتابة على غير سابق مثال.

الحداثة أفق للحرية الفردية، في انعتاقها من أثقال التراث التقليدي، والالتزام الفكري أو الاجتماعي، من أجل تحقيق «ذاتوية» الإنسان بمعزل عن إكراهات حواضنه التاريخية والمعاصرة على السواء.

(يتبع) الدمام
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة