Culture Magazine Thursday  16/12/2010 G Issue 325
فضاءات
الخميس 10 ,محرم 1432   العدد  325
 
العملية قيد التنفيذ
طارق بن سعود السياط

التقنية حقل الممكن، مثلما يشاع عن السياسة أنها فن الممكن. وطالما هناك أياد تقنيّة فثمة خيارات مفتوحة على كل الاحتمالات. ولا يُراد بالممكن المقدرة على الفعل، وإنما احتمال الوقوع، تحت أيّ ذريعة تقنيّة لا يسع المنطق لفظها.

في سالف عهدنا كانت القوانين والمجريات أشد حصراً ومنطقية، وما إنْ ولجنا عالمنا الرقمي هذا إلا وتناثرت الضوابط شذر مذر، وتشظى المفروض أشلاء ونتفاً تحت طائل التقنية، وبات من الشائع جداً وقوع أي واقعة، بدعوى التقنية.

في دنيا التقنية ليس الفَهْم سبيل التصديق. الحدوث - والحدوث فقط - هو الموجب الوحيد للفهم والقبول، وكأنما التقنية هي قديسة هذا العصر التي إن كانت قالت فقد صدقت. أما كان لنا ذات مرة أن تناهى لأسماعنا صوت عابر، بلا مصدر معلوم، أو رصدنا تحولاً جذرياً في بنية ما، دونما إرهاصات مسبقة، وما كان منا إلا التغاضي، حتى دونما دهشة؟

ليس علينا إذن أن نفهم كل ما يدور في الأفق الآن كيما نأذن له بولوج عقولنا؛ إذ يكفي كلّ شيء أنه يحدث وحسب. لا عجب؛ إنها التقنية، سيدة عقولنا التي لا تُسأل عما تفعل.

أضحينا كما لو أننا طارئون على هذا العالم، ونسبح في فضائه بلا حول، مثل ضيوف حديثي عهد بنُزُل، وما عليهم سوى الرصد والفرجة. كل ما ينبغي لنا هو التلقي، والموافقة، والمضي قدماً صوب مفاجأة حديثة مقبلة، قد تغدو أدهى وأمرّ.

عالمنا متناهي الصغر هذا، الذي ينعتونه بالقرية الكونية، خرج عن طوعنا - رغماً عنا -، وتعملق، وكشر عن أنياب ناعمة، وإنما فتاكة، كما لم يكن له من قبل. وحتى في أشد المجالات أنساً وحميمية، كالمنزل، ثمة تبعات للقرية الكونية تفعل فعلتها، وبات الكل متصلاً مع عالمه الكوني البعيد أكثر ممن هم حواليه جنباً إلى جنب.

وفي حين تروي أعراف القرى أن السكان أجمعين أسرة واحدة تجري الأمور في قريتنا الهائلة والمترامية والرقمية هذه خلاف ذلك، وبدا أن قريتنا الموقرة أنأى ما تكون عن فحوى القرية؛ لقد استعارت من القرية وشايتها، وشوشرات النميمة خلالها وحسب - ويا لتواضع ما أخذت!! -، وتغاضت عن أجمل ما في القرى: توقير التراتبية، والإنصاف في الأولويات. ففي أزقة القرية المعهودة لا يستبدل القروي قانونه العتيد (الأقربون أولى بالمعروف) بأيما معطى - سيان أكانوا: الأقربين نسباً، أو حتى مكاناً -، ولكن أي أناني ومجحف وغريب أطوار أشد من قروي هذا العهد الكوني الخفيف؛ إذ يضرب صفحاً عن هذا القانون، ويكرس مشاعره ووقته وجهده لقريبه الرقمي البعيد وراء البحار، ويُعرض عن شركاء المكان والدم خاصته؟

وفي الوقت الذي كان للمعنوي والقيمة والعرف سطوتها على النفوس في السابق بات للمحسوس والمتاح والمراد الكلمة الفصل في هذا الزمن. ويكفي المرء الرغبة في عمل ما كي يصنعه، دون أن يكون للمعايير الأخلاقية الاعتبار الحاسم المعهود فيما مضى، وأسفرت التقنية عن جسارة لافتة على انتهاك معاهدات قلبية وأعراف إنسانية دونتها صحائف الأيام، وبات أحدنا على وجل من أن يتلقى قذيفة إلكترونية ماحقة للروح في أي وقت، قد تجيء على هيئة رسالة نصية، أو مهاتفة، أو حتى وجهاً لوجه، وسينسى الأمر فوراً دون تبعات، تماماً مثل كبسة زر ينفذها أذكياء التكنولوجيا تباعاً.

نحن نسدد سعر طفولتنا التقنية بالتخبط، وتطرّف النزعات، وأزمة الهويات التي بتنا نقاسي أمرّيها، في حين أن في المجتمعات أمهات التقانة هناك ربما يكون الأمر أخف وقعاً، بل وأشد جدوى.

إننا في طور اكتشاف ذواتنا من جديد، وتحسس أطرافنا شيئاً فشيئاً، وترتيب محاولات دائبة للالتحام بنسيج هذا العالم، والتصالح مع لغته الرقمية الجديدة علينا، ولكن لا ندري على وجه القطع إلى أين نحن سائرون، وأي محطة سنختم بها مطافنا. في الأرجاء مجتمعات تخطت عملية الالتحام الكوني بنجاح، وبلا مضاعفات أو آثار جانبية تستحق الذكر، بينما ثمة أخرى ابتلعها الطوفان، وأرداها صريعة، لانتفاء الكفاية في وسائل السلامة خاصتها، فماذا عنا نحن؟ هل سنجتاز عقبة الوهلة الأولى ونعيد برمجة حياتنا وفق معايير التقنية دون أن نخسر ذواتنا، أم ماذا؟

ts1428@hotmail.com الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة