Culture Magazine Thursday  16/12/2010 G Issue 325
فضاءات
الخميس 10 ,محرم 1432   العدد  325
 
محطات استذكارية:مع الراحل د.محمد عابد الجابري (3)
هل (العقلانية) كانت مراوغة إيديولوجية من وراء ظهر الابستمولوجيا؟
د. عبد الرزاق عيد

لقد نظر العلمانيون إلى دعوة الجابري: إلى استبدال العلمانية بالعقلانية انطلاقاً من عدم وجود كنيسة في الإسلام، بوصفها تأقلماً وخضوعاً لتوسع سلطان الإسلام السياسي من جهة، ومن جهة أخرى استجابة وتناغماً مع المقولة (القوموية) حول «الخصوصية»، وذلك بالتلاقي مع الأطروحة الرسمية الدولتانية العربية التي لم تفض في مآلاتها إلا عن خصوصية الاستبداد، حيث طرحت هذه «الخصوصية» كاشتقاق من الأدلوجة القوموية البعثية التي راحت تتغّول في سوريا والعراق، أي إن هذه العقلانية المفترضة لن تفضي إلا إلى (معقولية الواقع القائم) التي ترتق بواقع البؤس إلى مستوى فلسفة البؤس لشرعنته عقلانياً، انطلاقاً من القراءة اليمينية لمقولة هيغل عن أن: كل واقعي معقول، أي ترسيخ وتأبيد معقولية الأمر الواقع.. ومن ثم السكوت عن الوجه الدياليكتيكي الآخر القائل: إن كل ما هو عقلاني واقعي أيضاً.. حيث في هذه المعادلة الثانية للأطروحة يكمن البعد الثوري لدياليكتيك هيغل.. وبذلك خلصنا إلى أن ثمة مراوغة ايديولوجية للخطاب تلتف على الواقع من وراء ظهر (الابستمولوجيا) وظيفياً، وذلك في خدمة أدلوجة (العقلنة كبديل للعلمنة).. لأخلص حينها بأنني لست مجتزئاً على طريقة «ويل للمصلين».. كما اتهمني الراحل الجابري برده في مجلة الحرية..

لنخلص إلى أن العقلانية التي يبحث الراحل عن تعيّناتها ومشخصاتها في التراث يقدمها كبديل نظري للعلمنة من منظور ايديولوجي يتوارى خلف الابستمولوجي الذي يفترض الحفر المعرفي عن مظان هذه العقلانية بوصفها العمق التاريخي، والمخزون النفسي، واللاوعي الشعوري أو اللاشعور النفسي - على حد تعبيره - لإنساننا الذي يعيش داخل التراث وفق استقراءاته لواقع الفكر العربي والثقافة العربية.. أي عوضاً عن اعتباره العقلانية التراثية هذه بمثابة العمق التاريخي التمهيدي لانتقال العقل العربي والإسلامي باتجاه الحداثة، فإنه راح يضع العقلانية بمواجهة العلمانية.. ويبدو أن هذه المواجهة كفلت للجابري مساحة واسعة من الحرية في التنقل بالساحات الثقافية العربية دون إثارة التوترات التي أثارتها قراءات نصر أبو زيد أو - ولو بشكل أقل تشنجاً - اجتهادات محمد أركون.. إذن، فقد كان مأخذ العلمانيين على رجل الإبيستمولوجيا حينها، أنه سرعان ما يتلاشى من ذهنه البعد الإيبستمولوجي للعلمنة وما تعنيه على مستوى صياغة البنية التكوينية للعقل في رؤية العالم والمجتمع والحياة، ليبحث فيلولوجيا عن جذور العلمنة في معادلها السياسي المباشر (السياسوي) علمانية السطح، وظروف ولادتها في الخاص الثقافي الغرب.. ليهبط بها إلى المستوى السجالي الذي يتمسح شعبوياً بالوعي اليومي العام.. الأمر الذي سيدفعنا إلى سجال سياسي ساخن مع الراحل لا يخلو من القسوة والعنت... حيث بنينا على مقدماته المنطلقة من معقولية الواقع فيما هو عليه، استنتاجاً يقود إلى نوع من المحاباة للدولة العربية القائمة، حيث خلاصة القول: إن الدولة العربية القائمة والراهنة هي أعلى مرحلة من مراحل تجلي العقل والعقلانية كما خلص هيغل إلى وصف الدولة البروسية في زمانه، بغض النظر عن نوايا الراحل...!

فكان حكمنا الحاسم الظالم نحو الراحل الكبير، عندما قلنا: هكذا يسجل العقل العربي لحظة من أشد لحظات أزمته على طريق انتكاسته ونكوصه في مسيرته النهضوية، حيث إن فكر النهضة الأولى كان يتحرك في إطار فهم المقولة الهيغيلية، انطلاقاً من أن العقلاني هو الوحيد الواقعي، وكان بذلك يطمح إلى الارتفاع بالواقع إلى مستوى العقل عبر الكشف عن لا معقولية الواقع ولا عقلانيته، وبذلك كان الآباء النهضويون المسلمون - ولن نتحدث عن المسيحيين كما يلح التراثيون المحدثون - أكثر عقلانية راديكالية وتنويراً شجاعاً في مشروعهم النهضوي التنويري منذ رفاعة الطهطاوي إلى الشيخ علي عبد الرزاق إلى الشيخ طه حسين من ممثلي المغرب (الجابري) والمشرق (حنفي) بل وكل التراثيين الجدد أو (التراثيين المحدثين).

وسنواصل..

باريس
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة