Culture Magazine Thursday  16/12/2010 G Issue 325
قراءات
الخميس 10 ,محرم 1432   العدد  325
 
فتاة الخيال
اعتدال موسى الذكرالله

دلالة العنوان تكشف عن حقيقة الرؤية التي يبدأ بها القصيبي قصيدته فرؤيته لفتاته ليست رؤية حقيقية وإنما خيال !! والخيال وهم وصور منعكسة من وراء سواد اليباب..

والطيف والخيال من المواضيع السهلة الممتنعة في خزانة الشعر العربي والتي تجلت في شاعرية غازي حيث بدت في إيقاعات القصيدة وتنغيماتها الصوتية من خلال وزن بحر المتقارب وقافية الراء الخفيفة الساكنة وعلى الرغم من أن المفردات الشعرية التي نضدها غازيٌ في عقدٍ بديعيٍ أنيق قد جاءت كما هي مألوفة في أشعار الغزل إلا أنها تسربلت بلباس المتعة والإثارة والروعة حينما صاغها بتلك الصور الفنية الرائعة والمجازات الخاطفة والتي تتراقص على نغمات وإيقاعات الموسيقى الرنانة التي تناغي الروح وتداعب ثنايا الفؤاد فيبدأ غازيٌ قصيدته الشفافة بجملة فعلية مفادها ما بين أنين الحاضر والمستقبل وربما الحاضر والماضي ويربط ذلك بعنوان القصيدة البيِّن الواضح والذي يكشف في دلالته عن حقيقة الفعل الذي يقوم أو الذي قام به وربما الذي سيقوم به.

وكأنه أراد أن يؤكد للقارئ ولنفسه أولا أن هذه الرؤية والتي يتمناها العاشق المحب ويتشوق إليها الواله الصبِّ حيث هي غاية الحبيب ومبتغاه ومطلبه ومناه ما هي إلا خيال والخيال وهم والوهم ضد الحقيقة فيكشف عن هذه الحقيقة ويؤكد رؤية الخيال لديه بمختلف الصور التي تتراءى وتموج من خلف سنوات اليباب من سنين عمره.

والرؤية التي بدأ بها القصيبي قصيدته تنم عن ذوقه الرفيع في الحب وتمرسه بفنون الهوى حيث إن جمال الحب يكمن في اللقاء بين الحبيبين والتي تجسده الرؤية..

وتنسابُ أماني الحياة الجميلة الزاهية وحُسنها الأخَّاذ بلباب العقول وبهائها البهي عند غازي وكعادة العشاق في نظرات الحبيبة الوالهة والتي تدغدغ القلوب بفيض الصفاء فتبعث البسمة العذبة والتي ارتسمت على شفاهها الرقيقة فكانت ابتسامة القدر الذي جمع بينه وبين فتاته جميلة الناظرين ورقيقة الشفتين وعذبة الابتسامة وإتيانه بلفظ ابتسام أبلغ من لفظة بسمة فأحدث المتعة في النفس والرفعة في الذوق الفني..

وتكثيف الصور الفنية والمجاز الخاطف كما في (ليالي الجفاف، يموج، ابتسام القدر) والمفردات الرقيقة والإيقاع الموسيقي الرنَّان الذي أحدثه وزن المجزوء والقاموس الشعري المفتوح على مقومات الخيال (ناظريك، شفتيك، ابتسام، وجهك، السحر، حلم، ضحكتها، بسمتها، وجنتيها، همس) استطاع الشاعر وبجدارة أن يحول الخيال إلى رؤية حقيقة جميلة وعالم من الإثارة التي تداعب القلوب بنشوة اللقاء ولهفة الاشتياق ولذة التبسم من ثغر القدر وأي قدر؟؟؟ قدر الجمال..

ويستمر غازيٌ في تتالي الأفعال الآنية الحالية المضارعة في أبيات القصيدة كما في (أراكِ، ألمح، أحنُّ، يغمرني، أعيشُ، فأحيا، أغني، أدعوه) وكأنه يلفت انتباه القارئ إلى أن أحداث قصته مع فتاته صارت في وقت كتابة القصيدة فترجم أجمل لحظاتها بأعذب الكلمات وأرق العبارات ليتغنى بها في حضور معشوقته ليرددها على مسمعيها في لحظات رؤيته ولقائه بها.... وإن كانت هذه الرؤية وهذا اللقاء مجرد خيال يناغي صوره الذهنية من خلف يباب العمر.... والظرفية المكانية في كلمة وراء ذات دلالة معنوية قوية أن تلك الرؤية التي يتحدث عنها وراء الحقيقة هي خيال مجرد خيال.

فبعد أن كان يتمنى رؤية الحبيبة في مطلع القصيدة صار يتمنى لو ينال لمحة لوجهها الوضَّاء من خلال ومضة قصيرة عبر الفضاء فيتخيل وجه فتاته كبقية الأجرام السماوية الجميلة الوضَّاءة والتي تزين فضاء العشَّاق الرحب والخالي من المخلوقات وكأنه يريد أن يستوحد بفتاته ويخلو بلحظات التأمل بهالات وجهها القمري وبأنواره المشرقة وكما هو معروف هالة القمر دارته المنيرة يحيط بها الرسامون رؤوس القديسين وهو هنا يحيط وجه قديسته بهالات البهاء...

وقد أثارت رؤية الخيال ولمحة وجه القديسة المشرق النيِّر بناظريها الجاذبين وشفتيها الرقيقتين في قلبه الصبِّ الحنين وأوقدت في جوفه جمر الاشتياق لا لرؤية ولا لخيال ولا للمحة وإنما لطيف يراه نائما فيتلذذ بمناغاته في أجمل نبض وأصدق إحساس.

وقد أورد الفعلين (أحنُّ وأشتاقُ) وهما يؤديان نفس المعنى عادة للتأكيد على ما يهزُّ أوتار قلبه من ذلك الإحساس العجيب والفريد من نوعه والشعور الذي داعب روحه الوالهة عند الشروق وفي ساعات السحر قبيل الفجر وكأنه يريد أن يثبت أنه لا ينام إلا على ذكراها ويصحو على ذكراها وطيفها يلامس مخيلته وقلبه وروحه وقد يحنُّ ويشتاق الشاعر لجنون فتاته في الحب وتهورها في العشق بأوقاتِ السحر حيثُ يحلو جنون الغرام وكذلك عند ساعات الإشراق إذ يعرَّف بعض اللغويين وأصحاب المعاجم الطيف بأنه الجنون وإثارة الغضب فيتشوق لغضبها وإثارة عتابها بدلال العشاق فيتلذذ بذلك كنوع من الإثارة العاطفية وتهيج المشاعر بينهما.

وبانسيابية الفنان المبدع ينتقل الشاعر من الصيغ الشعرية الخبرية إلى الصيغ الإنشائية في أبيات القصيدة والمتمثلة في السؤال والاستفهام والنداء والتمني محاكاةً للخاطر وحديثاً للنفس وبما يجول في صدره من خواطر.

فيعيش لحظات هذيان مع النفس ومناجاة للروح فيتساءل بشغف الواله المشتاق عن مكان فتاته وأين تتواجد؟؟؟ فيشير إلى أن لقائه بها أمرا بعيد المنال ولذلك أورد لفظة بعيد السفر وألحقها بمفردة الأفق نقطة انتهاء البصر ...

ويتفنن القصيبي في مفرداته الشعرية التي تفسر حقيقة الرؤية (الخيال، الطيف، الحلم، الفضاء، الأفق، السفر، وراء، بعيد، نأى) تأكيداً على أن رؤيته لفتاته والتي ابتدأ بها قصيدته ما هي إلا مجرد خيال وطيف وحلم بعيد المدى نأى وراء الأفق واستتر عبر الفضاء وعبر محطات السفر من سنوات عمره.

ويستأنف غازيٌ بسيل التساؤلات وموج الاستفهام التي تثير الشفقة على نفسه وهو يحادثها حيث وهب شبابه اليافع وهو أجمل محطات حياته وهبها لحبيبته «فتاة الخيال « وهي حلمٌ بعيد عن العيون واختفى !!! فكأنه عاش حياته وعمره على حلم مستتر !!!! حلم بعد واختفى وتتابع في الفعلين الماضيين (استتر واختفى) ليؤكد أحدهما على الآخر فيصف هذا الحلم بالبخل حيث إنه «الشاعر» وهب أجمل ما لديه شبابه وفي المقابل هذا الحلم بعد واختفى ولم يجاز هبته وعطائه فالهبة كما هم معروف العطية التي تعطى بلا عوض.. فوهبها شبابه من دون مقابل ولا عوض..

وتبقى ضحكة الأنثى وبسمة شفاهها مصدر إثارة الرجل وجذب فؤاده وطريقة من أنجع الطرق في صيد قلبه وتحريك مشاعره وإثارة كوامن إحساسه فيتغنى القصيبي بضحكة فتاته المرتفعة كالطائر الغريد الصادح الذي يرفع صوته بالغناء طربا وسرورا يثير النشوة عند سامعه... ويخالف غازي المعتاد عند الإناث فحينما تريد أن تبعث الاشتياق في قلب حبيبها تبدأ بالابتسامة العذبة الرقيقة ومن ثم تسترسل بالضحكات المثيرة ففتاة القصيبي تضحك وترفع نغماتها الرنانة ثم تخفت شيئا فشيئا لتتحول إلى بسمة شفافة ترتجف كارتجاف ورق الزهر بمهب البهاء والسحر والجمال الأنثوي الرقراق وغازي الشاعر المحب يحتاج للانفعاليين الشعوريين المثيرين من محبوبته « الضحك والبسمة « لاستكمال شعوره بالمتعة.

فهنا يطيب لشاعرنا الملهم مقارنة ضحكة أنثاه ما بين أن تكون مرتفعة مجلجلة مُغناة كما هي إغراءات النساء الشقراوات من بلدان أوروبا وبين أن تكون تلك الضحكة سمراء كالنساء العربيات اللاتي يعرفن بالخجل والصمت يمرح في وجنتيها النديتين الحياء ويسبح فيهما الوجوم والصمت المعتاد من المرأة العربية عند مغازلة حبيبها لها...

ويتعمق في محادثة نفسه ويحاكي خاطره عن اسمها ويتغنى بأسرار أحرف اسمها باشتياق الوتر للطرب واللهو والنغم..فيتساءل:

وما اسمكِ؟؟ ما سرها أحرفاً

منغمةً كحنين الوتر؟؟

وتتجلى في هذه القصيدة روح الشاعر التونسي « أبو القاسم الشابي « ورومانسيته الغارقة في بحر الهيام ويشترك معه في الكثير من المفردات الشعرية كما في (القمر، السحر، الزهر، أراكِ، ارتجاف، اهتزاز) فجاءت قصيدة غازي مقاربه لقصيدة الشابي في الوزن « المتقارب « ونفس الروي لمقطوعة الشابي الأخيرة في قصيدته « أراكِ « وفي المعنى وبعض الصور الفنية كما في أماني الحياة وابتسام الشفاه..

ويتمختر القصيبي في أسلوب النداء لأنثاه الحالمة وفتاة خياله ويتدلل في ذلك بإثباته موعد تلاقيهما عبر الانتظار وهنا تظهر لوعة الانتظار عند العشاق والإحساس الجميل المفعم يغمره بهمس المنى وحسيس الاشتياق. فيناديها قائلا:

فتاة الخيال !! لنا موعدٌ

أعيشُ على يومه المنتظر ْ

ويغمرني منه نفح النعيم

وهمس الأماني وحل والخدرْ

ويختم قصيدته بربطها بمطلع القصيدة ومفسره للبيت الأول منها حيث إن الرؤية التي استفتح بها القصيدة ما هي إلا حلم مدخر في خياله وذاكرته يحيا به عمره ويغني له ويدعوه بحلمه المدخر الثمين المخزون...

فأحيا به وأغني لهُ

و أدعوهُ: يا حُلمي َالمدخر!!!

المتعة والإثارة والجمال توالدت في النص من رومانسية غازي وعاطفته الرقيقة والتي نضحت بها إنسانيته الجميلة وشاعريته الأنيقة فالرقة تنساب إنسيابا رائعا في إحساسه الدافئ والتي استشعرناها من أول كلمة في البيت الأول والتي تجسدت في الرؤية وغاية العاشق من معشوقته في الرؤية واللقاء وإن كان في الحلم أو عبر الطيف والخيال ولو صور أوهام تتسلل من خلف ليالي لعشاق الناضبة..

وليست البسمة هي المصدر الوحيد للجمال عند القصيبي بل تعدتها لتشمل الضحكة والهمسة والنظرة وفي الموعد والانتظار وتلك أحلى الأماني والحلم المدخر عند شاعرنا غازي.

* * *

اعتدال ذكرالله: شاعرة وإعلامية سعودية لها: ديوان تراتيل الروح في زمن الغربة

وأينعت الأشواق

أغاريد البلابل

مسرحية شعرية للأطفال: سوسن

***

أراكِ وراء ليالي الجفاف

خيالاً يموج بشتَّى الصُّورْ

ففي ناظريكِ أماني الحياة

وفي شفتيكِ ابتسام القدرْ

وألمحُ وجهكِ عبر الفضاء

يضئ بهالاته كالقمرْ

أحنُّ لطيفكِ عند الشروق

وأشتاقُ خطوكِ عند السحرْ

فأينكِ؟؟؟ أين ترى توجدين؟؟؟

وفي أي أفق ٍ بعيد السفر؟؟

ومَنْ أنتِ؟ يا من وهبتُ الشباب

لها... وهي حلمٌ نأى واستترْ؟

أشقراء ضحكتها كالصداح

وبسمتها كارتجاف الزهر؟؟

أسمراء يسبح فيها الوجوم

ويمرح في وجنتيها الخفر؟؟

وما اسمكِ؟؟ ما سرها أحرفاً

منغمةً كحنين الوتر؟؟

فتاة الخيال !! لنا موعدٌ

أعيشُ على يومه المنتظرْ

ويغمرني منه نفح النعيم

وهمس الأماني وحلو الخدرْ

فأحيا به وأغني لهُ

وأدعوهُ: يا حُلميَ المدخر!!!

شعر - غازي القصيبي
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة