Culture Magazine Thursday  16/12/2010 G Issue 325
قراءات
الخميس 10 ,محرم 1432   العدد  325
 
وحي القلم لإمام البيان العربي مصطفى صادق الرافعي (2)
(1298 - 1356هـ 1881 - 1937م)
عبدالفتاح أبومدين

البيان

إنني أقرأ في: (صدر الكتاب - وحي القلم) مقدمة الطبعة الأولى قول الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي: لا وجود للمقالة البيانية إلا في المعاني التي اشتملت عليها، يقيمها الكاتب على حدود ويديرها على طريقة، مصيباً بألفاظه مواقع الشعور؛ مثيراً بها مكامن للخيال، آخذاً بوزن تاركا بوزن، لتأخذ النفس كما تشاء وتترك (.. بهذه الألفاظ الجزلة الرنانة ذات المعاني التي عناها المؤلف لكتابه الذي يمثل هدفه وتوجهه في أجزائه الثلاثة.. هذه المقدمة أو (البيان) كما سماه الكاتب الكبير شغلت أربع صفحات.. فيها قوة اللفظ وديباجة البيان ونصاعة الأسلوب العربي المشرق حين يتناوله كاتب بليغ كالأستاذ الرافعي رحمه الله.

وإنني وأنا أقرأ مقدمة وحي القلم أنقل كلمات المؤلف من البيان وبيانه، فهو يقول: فالكاتب الحق لا يكتب ليكتب، ولكنه أداة في يد القوة المصورة لهذا الوجود، تصوّر به شيئاً من أعمالها فناً من التصوير (.. إذاً فهذه الأداة المسخرة تنسج ما تملي عليها القدرة العليا، وقد أعطت ما أريد منها من وسائل العمل الذي سخرت له، تصديقاً لقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم : كل ميسر لما خلق له) ، وذلك لإعمار الكون بما يوهب الإنسان من قدرات ومواهب من رب كل شيء وخالق كل شيء،.. والعقل هو الوسيلة الفاعلة التي تفضل بها الخالق على المخلوق) .. ونقرأ قول الكاتب الكبير المجيد: وإذا اختير الكاتب لرسالة ما، شعر بقوة تفرض نفسها عليه، منها سنادُ رأيه، ومنها إقامة برهانه، ومنها جمال ما يأتي به، فيكون إنساناً لأعماله وأعمالها جميعاً، له بنفسه وجود، وله بها وجود آخر، ومن ثم يصبح عالماً بعناصره للخير أو الشر كما يُوجَّه؛ ويُلقى فيه مثل السر الذي يُلقى في الشجرة لإخراج ثمرها بعمل طبيعي يُرى سهلا كل السهل حين يتمُّ، ولكنه صعب أي صعب حين يبدأ) ..

والحق أقول إن قراءة بعض سطور البيان بيان عميق المعاني والدلالة، لأن ما نطالع بياناً لإمام البيان والمعاني، وحسبي أن أشير إلى ما سماه الأستاذ الرافعي: دورة العبارة الفنية في نفس الكاتب البياني) فهي: دورة خلق وتركيب، تخرج بها الألفاظ أكثر مما هي كأنما شبَّت في نفسه شباباً، وأقوى مما هي كأنها كسبت من روحه قوة، وأدلّ مما هي، كأنما زاد فيها بصناعته زيادة، فالكاتب العلمي تمر اللغة منه في ذاكرة وتخرج كما دخلت، عليها طابع واضعيها، لكنها من الكاتب البياني تمر في مصنع، وتخرج عليها طابعه هو، أولئك أزاحوا اللغة عن مرتبة سامية، وهؤلاء علوا بها إلى أسمى مراتبها، وأنت مع الأولين بالفكر، ولا شيء إلا الفكر والنظر والحكم، غير أنك مع ذي الحاسّة البيانية لا تكون إلا بمجموع ما فيك من قوة الفكر والخيال والإحساس والعاطفة والرأي) .. وكلمتا (النظر والحكم) ، ذكرتني بالأستاذ الرافعي في محكمة طنطا، غير أن عمق هذا البيان في - وحي القلم -، بدء بهذه المقدمة التي اختار لها عنواناً - البيان - لا أحيد أبداً عن الإعجاب التام بهذه الريادة البيانية لإمام من أئمة البيان بلا منازع!

ونقرأ عنواناً: (في الربيع الأزرق).. وحق للأستاذ الرافعي في خطراته ووصفه وهو في مصيف الإسكندرية)، أن يسمى بحرها الأزرق ربيعاً، مع أن الناس إذا سمعوا كلمة - ربيع - أن يتلفتوا إلى فصل الربيع في رؤاه اليانع ونسمته الوسنى..، ولكن مع الكاتب المجيد نراه يمارس باللغة الشاعرة ما شاء من المعاني في وصفه، وحين نقول: ربيع العمر (فلن نذهب بعيداً لرؤية وتصور غير بعيد بل أقرب من القريب، فالشباب اليانع ربيع وأي ربيع، والربيع ماتع في كل شيء وفى كل وصف، عندي وعند ذوي الفكر والتأمل) ربيع (لا يقاس عليه إلا ربيع (السعادة) إن صح هذا التعبير وهو: ربيع العمر الذي أشرت إليه. وبذلك ردد الشعراء والأدباء وربما عامة الناس: ألا ليت الشباب يعود يوماً).

نقرأ إذاً (خواطر مرسلة) في (الربيع الأزرق) : ما أجمل الأرض على حاشية الأزرقين: البحر والسماء يكاد الجالس هنا يظن نفسه مرسوماً في صورة (.. وقال في هذه الخواطر السابحة في الأزرقين: نظرت إلى هذا البحر العظيم بعيني طفل يتخيّل أن البحر قد ملئ بالأمس، وأن السماء كانت إناءً له، فانكفأ الإناء فاندفق البحر، وتسرحت مع هذا الخيال الطفلي الصغير، فكأنما نالني رشاش من الإناء) .. وقال: والقمر زاه رفاف الحسن، كأنه اغتسل وخرج من البحر، أو كأنه ليس قمراً، بل هو فجر طالع في أوائل الليل، فحصرته السماء في مكانه ليستمر الليل..

(في الربيع يتحرك في الدم البشري سر هذه الأرض، وعند الربيع المائي، يجلس المرء، وكأنه جالس في سحابة لا في الأرض، ويشعر كأنه لابس ثياباً من الظل لا من القماش).

(وتخف على نفسه الأشياء، كأن بعض المعاني الأرضية انتزعت من المادة ؛ وهنا يدرك الحقيقة: أن السرور إن هو إلا تنبه معاني الطبيعة في القلب) .. وهكذا السائحون في الأرض والسابحون بخيالاتهم من الشعراء ورؤاهم لبديع صنع الله.. والشاعر الملاح التائه على محمود طه ابن (المنصورة) - رحمه الله - تغنى كثيراً بمفاتن الطبيعة ولا سيما البحر، فقصيدته (الجندول) ، ذلك القارب في (البندقية) فينيسيا وبحيرة كومو (في إيطاليا، وسبحه في) نيس وكان (على شاطئ المتوسط) أسوغ (في جنوب فرنسا، وحتى في بلادنا من سكان جدة من الشعراء والأدباء كانوا سمّار الليالي في تجلياتها البيض، تحلّق أخيلتهم وتتغنى في مراحل الصبا سابحة مع البدر والبحر.. وفي المنطقة الشرقية كان الناس هناك وأخص الشعراء والغاوين الذين يتبعونهم حتى إن السورة في الكتاب العزيز سميت باسمهم، مع أن ذكر الشعراء لم يأت إلا في أواخر السورة..

وأعود لأقف على كلمات من الخواطر المرسلة في (الربيع الأزرق) .. قال الأستاذ الرافعي: تبدو لك السماء على البحر أعظم مما هي، كما لو كنت تنظر إليها من سماء أخرى لا من الأرض) .. وحقاً قال الكاتب: فعبر جمال النفس يرُى كل شيء جميلا) .. وحول هذا المعنى قال الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي:

كن جميلاً تر الوجود جميلا) .. وقال الرافعي في خواطره: إذا كنت في أيام الطبيعة فاجعل فكرك خالياً، فرّغه للنبت والشجر، والحجر والمدر، والطير والحيوان، والزهر والعشب، والماء والسماء، ونور النهار وظلام الليل، حينئذ يفتح لك العالم بابه (وقال: لطف الجمال صورة أخرى من عظمة الجمال، عرفت ذلك حينما أبصرت قطرة من الماء تلمع في غصن، فخيّل إلى أن لها عظمة البحر، لو صَغُر فعلق على ورقة) .. وقال مصوراً: (الحياة في المدينة، كشرب الماء في كوب من الخزف، والحياة في الطبيعة كشرب الماء في كوب من البلور الساطع، ذاك يحتوي الماء، وهذا يحتويه ويبدي جماله للعين) ..

القصاص

دُعيَ الرافعي إلى كتابة مقال أسبوعي في مجلة الرسالة، وهو يعلم أن بيانه العالي يتعاصى على كثير من عقول الشباب؛ فإذا التزم ما التزمه في كتب رسائل الأحزان وأوراق الورد والسحاب الأحمر، فقد يجد انصرافاً عن مقاله في الرسالة إلى غيره من مقالات أحمد الزيات وأحمد أمين ومحمد فريد أبي حديد، من الذين يرون السهولة السلسة مما تُرضي حاجة الجمهور؛ لذلك رأى أن يصطنع أسلوب القصة كما يراه هو لا كما يقرره أساتذة النقد، ليكون في سهولة مأتاه ما يقربه إلى الطائفة الكبرى من القارئين.. وإذا أراد القارئ أن يقف على مفهوم القصة عند الرافعي، فليقرأ ما كتبه تلميذه الأستاذ محمد سعيد العريان عن ذلك في كتابه الشامل (حياة الرافعي) ، حيث قال في ص (353) : (وطريقة الرافعي في كتابة قصصه غريبة، وغايته منها غير غاية القصاص، فالقصة عنده لا تعدو أن تكون مقالة من مقالاته في أسلوب جديد، فهولا يفكر في الحادثة أول ما يفكر، ولكن في الحكمة والمغزى والحديث والمذهب الأدبي ثم تأتي الحادثة من بعد، فكان إذا هم أن ينشئ قصة من القصص، جعل همه الأول أن يفكر في الحكمة التي تريد أن يلقيها على ألسنة التاريخ، على طريقته في إنشاء المقالات، فإذا اجتمعت له عناصر الموضوع، وانتهى في تحديد الفكرة إلى ما يريد، كان بذلك قد انتهى إلى موضوعه، فليس له إلا أن يفكر في أسلوب الأداء) .انتهى.

إذاً فإن الرافعي يريد الهدف الخلقي والمغزى الإسلامي في كثير مما يكتب.. ولا عليه أن يتحدث عن غير ذلك، فيُعنى بالحدث والشخص والمكان والتحليل لغوامض النفوس؛ كما يهتم بذلك كتّاب القصة المعاصرة، بل عليه أن يصل إلى غرضه في معرض شائق من البيان الأدبي، قد لا يستطيعه سواه.. ولأضرب المثل بأول قصة في الجزء الأول من وحي القلم، وقد جعلها الرافعي فاتحة الكتاب؛ ولن يكون ذلك إلا صدى لإعجابه بها، ومغزى هذه القصة هو ما ذكره الرافعي في مقدمة مقاله، وهو أنه جاء في تاريخ الواقدي؛ أن المقوقس عظيم القبط في مصر، زوج بنته (أرمنوسة) من قسطنطين بن هرقل، وجهزها بأموالها وحشمها لتسير إليه، حتى يبني عليها في مدينة قيساريّة؛ فخرجت إلى بُلبيس وأقامت بها، وجاء عمرو بن العاص إلى بلبيس فحاصرها حصاراً شديداً وقاتل من بها، وقتل منهم زهاء ألف فارس؛ وانهزم من بقي إلى المقوقس، وأُخذت أرمانوسة وجميع مالها، وأخذ كل ما كان للقبط في بلبيس، فأحب عمرو ملاطفة المقوقس، فسيّر إليه ابنته مكرمة في جميع مالها، مع قيس بن أبي العاص السهمي فسُرّ بقدومها (. ثم قال الأستاذ الرافعي: هذا ما أثبته الواقدي في روايته، ولم يكن معنياً إلا بأخبار المغازي والفتوح؛ أما ما أغفله فهو ما نقصه نحن) ..

وأطلق الرافعي خياله ليكون عنوان فاتحة (وحي القلم: (اليمامتان) ، مرمزاً كما أتصور، إلى (أرمنوسة) و (مارية) ب (الحمامتان) .. وصاحب وحي القلم أراد أن يطلق لقلمه العنان فيقدم إلى القاري حديث (اليمامتان) في تعبير قصصي ماتع بقلم ذي قدرة لعرض القصص في بيان الرافعي المشرق ! فقال: كان لأرمنوسة وصيفة مولدة تسمى (مارية) ذات جمال يوناني أتمته مصر ومسحته بسحرها، فزاد جمالها على أن يكون مصرياً، ونقص الجمال اليوناني أن يكونه.. وكانت مارية هذه مسيحية قوية الدين والعقل وكانت شاعرة، قد درست هي وأرمانوسة أدب يونان وفلسفتهم، وكان لها خيال مشبوب متوقد يُشعِرُها كل عاطفةٍ أكبر مما هي، ويضاعف الأشياء في نفسها، فيبالغ في تهويل الحزن خاصة، ويجعل من بعض الألفاظ وقودا على الدم، اتخذها (المقوقس) كنسية حية لابنته، وهوكان والياً وبطريريكاً على مصر من قبل (هرقل) ، وقال الأستاذ الرافعي: وكان من عجائب صنع الله أن الفتح الإسلامي جاء في عهده، فجعل الله قلب هذا الرجل مفتاح القفل القبطي، فلم تكن أبوابهم تُدافع إلا بمقدار ما تدفع: تقاتل شيئاً من قتال غير كبير.. أما الأبواب الروميّة فبقيت مُستغْلقة حصينة لا تُذعن إلا للتحطيم، ووراءها مائة ألف رومي يقاتلون المعجزة الإسلامية التي جاءتهم من بلاد العرب أول ما جاءت في أربعة آلاف رجل، ثم لم يزيدوا آخر ما زادوا على اثني عشر ألفاً..

* ألقي هذا الحديث في «خميسية» حمد الجاسر 26-12-1431هـ الموافق 2-12-2010م
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة