Culture Magazine Thursday  17/06/2010 G Issue 315
فضاءات
الخميس 5 ,رجب 1431   العدد  315
 
التاريخ ودروسه في الوعي المحلي
د. فالح العجمي

كانت الآراء في الحضارات القديمة تنطلق من رؤية واحدة؛ تتأسس في إطار المكونات الثقافية المحلية، وتحكمها قوانين المنطق السائدة في بيئتها، دون النظر إلى أفق جغرافي أوسع، أو تلاؤم مع الثقافات المجاورة وسياقاتها التاريخية المصاحبة. لكن الوضع تغير كثيراً، منذ أن درجت المجتمعات البشرية على التواصل فيما بينها بأشكال متعددة، وأصبحت عوامل المقارنة والاستفادة المتبادلة بين الأفراد في مجتمعات مختلفة واردة بصورة طبيعية، وكذلك الأمر على المستوى الجمعي؛ بدءاً من التمثيل الدبلوماسي إلى التبادل التجاري، والتعاون العلمي والتقني والبيئي والرياضي والفني، خاصة بعد عولمة وسائل الاتصال وموارد الترفيه والنقل والوقاية من المخاطر والأمراض.

وبالرغم من اختلاف الوسيلة عن الغاية في الدرجة، وشرف التصنيف، وثبات العناصر؛ إلا أنّ الأهداف الكبرى لدى الأفراد أو المجتمعات ترتبط في حالات ليست قليلة بالأولى بديلاً عن الثانية. وليس أدل على هذا الانزياح من كون مؤسسات كبرى في حياة المجتمعات قد ارتبطت بالوسائل أكثر من ارتباطها بالغايات؛ فالدولة أصبحت وسيلة، وليست غاية: وظيفتها تحقيق الأمن، بتطبيق النظام والقانون في الداخل، ودفع الأعداء الأجانب من الخارج؛ وذلك ضماناً للأجواء الصالحة لممارسة الحرية.

وكذلك الدين كان من أكثر المؤسسات الاجتماعية الكبرى تحولاً من كونه غاية إلى أن أصبح وسيلة (متغيرة الاستخدام في بعض الحالات أيضاً). بل إنّه في أكثر العصور تشدداً في الدين كان ذلك التحول يتم في أشد صوره ضراوة، ليصبح الدين أكثر الوسائل سهولة للاستغلال نحو الثروة أو السلطة أو الجاه أو الظلم والابتزاز ونشر الخرافات. إلى غير ذلك من طرق نشر الأفكار وترويجها.

فإذا اجتمعت الدولة مع الدين، فإنّ عنف ذلك التحول يصبح مريعاً، كما حدث في تاريخ أغلب الأديان الكبرى. وتحوُّل تلك الوسائل في الحكم أو مبادئ الدين إلى غايات بحد ذاتها مكّن من دخول دورة العنف إلى المجتمع الإسلامي، الذي قادته تلك الأحداث إلى حروب أهلية وثأرات فكرية متبادلة لم تنته انعكاساتها إلى الوقت الحاضر.

وآثار ذلك تكون مدوية، ليس على المستوى النفسي للأفراد فحسب، بل أيضاً على مستوى التماسك الاجتماعي، ووضوح طرق السلوك، ونماذج القدوة، ومسطرة القيم التي يكون في اختلالها ضياع للهوية واستلاب ثقافي، تستغله التيارات المنتفعة في بيع الأوهام. وفي مثل تلك الأحوال يصبح سير المجتمعات متخبطاً؛ لا تُعرف له سكة، وما يبنيه في يوم يهدمه في يوم آخر، ليعيد بناء ما هدمه وفق طرق أخرى، دون أن يكون بناء تراكمي أو عمل مؤسسي مما تحتاج إليه المجتمعات. وأستعير في هذا الشأن ما طرحه الدكتور إبراهيم التركي من مقاربة للمجتمع المحلي بعد ثلاثين سنة من تخبط المجتمع السعودي في غبار الصحوة التي تلت حركة جهيمان في غزوة الحرم المشؤومة. إذ يطرح سؤالاً عما أنجزه التحول المجتمعي خلال هذه الحقبة، «وهل استطاع التيار الذي تصدر وتصدى لما سواه من تيارات أن يحقق التواصل بين ال (ما يدعو إليه) وال (ما يمارسه)؟» ويجيب على السؤال: «بدأ كثيرون من سدنة التيار في المراجعة، ومال غيرهم إلى التراجع، لكن إقناع الفرد العادي بأن ما خاله من مسلمات قد استحال إلى تجاذبات عملية شاقة نتمنى ألا تحتاج إلى ثلاثين سنة أخرى من التيه القيمي والأدلجة العبثية. المرحلة التي نعيشها -اليوم- تحتاج إلى وعي المسافة بين أحادية السيطرة وبعثرة الاغتراب». وعودة إلى العنوان، وصياغة السؤال المتعلق بالتاريخ ودروسه المستفادة منه: ألسنا أمة نحفل بالتراث أكثر من اهتمامنا بحاضرنا؟ فلماذا نهمل الاستفادة مما نُعنى به أشد العناية (ماضينا وتاريخنا الذي نجتهد في تزييفه)؟

الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة