Culture Magazine Thursday  20/05/2010 G Issue 311
فضاءات
الخميس 6 ,جمادى الآخر 1431   العدد  311
 
نهر من العطاء العلمي اسمه محمد قجة
عبد الله الصالح العثيمين

كم هو صعب على محدود المعرفة مثلي أن يتحدَّث عن عالم موسوعي المعرفة والثقافة متدفِّق العطاء والحيوية. أعلم هذا علم اليقين، وأرجو أن أحظى برحمة ربي، الذي وسعت رحمته كل امرئ عرف قدر نفسه. أنَّى لمن هو مثلي في محدودية معرفته وضعف قدرته على التعبير عما يشعر به أن يفي بحق حبيب الجميع، الأستاذ محمد قجة، أو يقرب من الوفاء بهذا الحق، فيتكلم عن أبي حسن بما هو جدير به وحسن؟

هذا العالم الموسوعي الفذ، العاشق لتراث أمتنا، المتدفِّق عطاء وحيوية لإحياء هذا التراث المجيد والمحافظة عليه، ليس من اليسير إيفاؤه حقه عند الحديث عنه.

ينتمي حبيب الجميع، أبو الحسن الأستاذ محمد قجة، إلى أسرة كريمة عربية المحتد عميقة الجذور في حلب الشهباء ذات الماضي العبق مجداً، والحاضر المتألِّق فخراً واعتزازاً. أسرة كانت لها مكانتها؛ عطاء علمياً ونضالاً وطنياً. ولو لم يكن من رجالها إلا جده محمد، الذي قاد ثورة في سبيل وطنه أدَّت إلى استشهاده، عام 1920م، لكفاها فخراً ومجداً.

قبل ما يقرب من سبعين عاماً سعدت أسرة ذلك الحبيب بطلَّته على الدنيا، فاستبشرت بتلك الطلَّة النيِّرة خيراً. وما كان الله البر الوهَّاب إلا ليجعل ذلك الاستبشار دائم الإشعاع والوهج. ففي ظلال تلك الأسرة الوارفة حنواً مضى المستبشر بطلَّته وليداً يرفل في حلل السعادة؛ ناهلاً من موارد العلم ما يروي الظمأ، وجانياً من ثمار المعرفة ما لذَّ وطاب. ولم يقتصر على ما كان يتعلَّمه أقرانه في صفوف الدراسة بمؤسسات التربية والتعليم - وفيه الخير الكثير -؛ بل راح يقرأ ويواصل القراءة بنهم ما دوَّنه المؤلفون في مختلف الموضوعات؛ لا سيما موضوعات العلوم العامة والإنسانية. ولعشقه لهذه القراءة أصبح لديه - فيما بعد - مكتبة منزلية تتألف من حوالي اثني عشر ألف عنوان.

وشخصية فذَّة مثل شخصية حبيب الجميع العالم الموسوعي محمد قجة لم يكن غريباً أن كان عطاؤه لأمته ووطنه متَّسقاً مع مؤهلاته العلمية ذات الوجوه المشرقة. ولذلك فإنه - وهو من السبعين عاماً قاب قوسين أو أدنى.. مدَّ الله في عمره - يرأس مؤسسات لها منزلتها الراقية، أو يشارك مشاركة فعَّالة في إدارتها. فهو رئيس مجلس إدارة جمعية العاديَّات السورية منذ أربعة عشر عاماً؛ وهي جمعية تأسست عام 1930م، ومركزها في حلب، ولها خمسة عشر فرعاً في مدن سورية أخرى. وهو رئيس تحرير الكتاب السنوي المحكَّم عاديات حلب، بالتعاون مع جامعة حلب. وهو رئيس تحرير مجلة العاديَّات الفصلية للتراث والآثار والمدير المسؤول لها. وكان المدير للأمانة العامة لاحتفالية حلب عاصمة للثقافة الإسلامية، كما أنه المستشار الثقافي لمحافظة هذه المدينة العظيمة؛ إضافة إلى كونه عضواً في لجنة حماية منطقتها القديمة، وعضواً في الجمعية السورية لتاريخ العلوم (معهد التراث العلمي العربي بجامعة حلب).

ولم يقتصر نشاط حبيب الجميع العلمي على ما قام به - ويقوم به - في داخل القطر السوري - وهو نشاط عظيم مقدَّر -؛ بل امتد ليشمل عضويته في مجالس ومؤسسات علمية في عشرة أقطار أخرى؛ عربية وغير عربية. أما عطاؤه الفكري فهو الآخر مثار إعجاب ومحلَّ تقدير وإجلال؛ لا من حيث وفرة الإنتاج فحسب؛ بل ومن حيث جودته وتنوُّعه أيضاً. فقد صدر له حتى الآن أربعة وعشرون عملاً علمياً؛ ثمانية عشر منها بمفرده، وستة بالاشتراك مع آخرين؛ إضافة إلى مراجعة ترجمة عملين، وتقديم عدد كبير من الكتب لمؤلفين في مجالات الدراسات الحضارية والتاريخية والأدبية، وأكثر من ثلاث مئة دراسة في عدد من الدوريات المحلِّية والعربية والأجنبية. وفي طليعة ما أنجزه ونشره بمفرده سلسلة «الخالدون» المشتملة على ست شخصيات لكلٍ منها عظمتها الخاصة. وهؤلاء هم: شجرة الدر، وعبد الملك بن مروان، وصلاح الدين الأيوبي، والظاهر بيبرس، وطارق بن زياد، وعبد الرحمن الناصر. وفي طليعتها، أيضاً، السلسلة التاريخية المتناولة لمعارك إسلامية مشهورة، وتحقيق ديوان محيي الدين بن عربي.

ولم يقتصر عطاء ذلك النهر من العلم، حبيب الجميع الأستاذ محمد قجة، على ما له صفة بحثية أكاديمية؛ تأليفاً أو تحقيقاً لكتب، أو تقديماً في برامج تليفزيونية، أو اكتشافاً لأمكنة تاريخية؛ مثل اكتشاف موقع بيت أبي الطب المتنبي في حلب؛ بل امتد إلى ميدان الإبداع. فكان من ذلك تأليفه مسرحيتين؛ إحداهما عن مدينة حلب في التاريخ، وثانيتهما عن الملكة ضيفة خاتون، وكان أن كتب قصائد ذات مستوى إبداعي رفيع. ولأنه مورد عذب - والمورد العذب كثير الزحام - لم يكن غريباً أن دُعي، فأجاب الدعوة إسهاماً منه في أداء ما يخدم أمته، إلى مؤتمرات وندوات داخل الوطن العربي وخارجه تجاوز عددها ثلاث مئة؛ منها أكثر من خمسين في السنوات الخمس الأخيرة وحدها. وكانت له في الكثير منها أوراق عمل إضافة إلى المشاركة في المناقشات.

وإذا كان ما سبقت الإشارة إليه باختصار عن شخصية ذلك النهر من العطاء، حبيب الجميع العالم الموسوعي محمد قجة، أمراً يجعله مميَّزاً؛ عطاء علمياً وإدارياً لوطنه وأمته، كما يجعله مثار إعجاب ومحلَّ تقدير وتكريم، فإن ما يتحلَّى به من صفات خلقية رفيعة عامل أكبر لرسوخ محبته في قلوب من سعدوا بمعرفته. زاده الله توفيقاً، وبارك في كل ما يقوم به ويقدمه خدمة لوطنه وأمته.

الأمين العام لجائزة الملك فيصل العالمية الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة