Culture Magazine Thursday  20/05/2010 G Issue 311
فضاءات
الخميس 6 ,جمادى الآخر 1431   العدد  311
 
بوابةُ الريحِ، ما بوّابةُ الريحِ؟
الثبيتي وكتابةُ القصيدةِ إلقاءً!!
خالد الرفاعي

يمكنْ أنْ يقودَك إلقاءُ الشاعر إلى جودةِ شعره أو رداءته، وإلى طقوسِ كتابة الشعر، التي لا يعرف قداستَها إلا من مسّه جِنُّ الشعر، أو تلطّخَ بشراراتِ أوزانه. من الشعراءِ من يلقي قصيدته فينزل بها إلى الدرك الأسفل من الرداءة، ومنهم من يمارسُ علينا الخديعة، فيلقي قصيدته بشكل خطير، نقف معه على أطراف أصابعنا، نصفِّق ونهتف ونرقص، لكننا حين نختلي بقصيدته داخلَ الورقِ يصدمنا شحوبُها وترهّلُ خصريها، ويؤلمنا عجزُها عن الوقوف على قدميها ساعةً واحدةً في طابورِ الشعرِ الجميل...

ومن وراء هذا وذاك، يطلع علينا شاعرٌ، عليه آثارُ السفر، وليس عليه من آثاره شيء، يجلله تعبٌ ولا يجلله، يلقي علينا قصيدته كتابةً، أو يكتب بنا قصيدته إلقاءً، فنشعر ونحن نستمع إليه أننا نكتبُ هذه القصيدة، أو أننا في أسوأ الأحوال نساهم في ولادتها أو توليدها، ننتقلُ مع مطالع صوته من مكان المتلقي إلى مكان الشاعر، كما ينتقل أحدُنا فجأةً من مكان الضيفِ إلى مكان المضيّف..، ففي الصورتين نشعرُ بالاقتراب أكثرَ وأكثرَ من نقطة التفاصيل.

محمد الثبيتي، أحد هؤلاء، فهو شاعرٌ فوق العادة، نقرؤه فنطرب، ونستمع إليه فنطرب مرتين، حين نقرؤه نطرب لشعره، وحين نستمع إليه نطرب للشعر ولنا بوصفنا شعراء، لأننا في لحظة الاستماع إليه، نمارس كتابة القصيدة، نطرح أسئلتها ونجيب عنها، نحيي صورها ثم نميتها، نكون كما العالم بكلِّ شيء، نعرف ما كان منها وما سيكون كيف يكون..، حالة من التلقي استثنائية تولد فينا حين نستمع إليه، تجعلنا نجرِّب الشعرَ لأوّل مرة، نكتبه بأسماعنا لأوِّل مرّة، فتنتابنا هزةٌ تشبه هزةَ الشاعر حين يجد البيت الذي يعبِّر عنه، ويطفئُ نارَ لحظته الضاغطة.

يلقي (الثبيتي) قصيدته، وفي منتصفها إلا قليلاً يقفُ صامتاً، يرسل نظراته بين يديه، يتأمل الأرضَ التي تعرش على جدران قصائده، ثم يستقبلُ الناسَ ويكمل..، لحظةُ الصمت تلك تسمح للمقرّبين من القصيدة أنْ يحلِّقوا بأجنحتهم في سمواتِ الانتظار الجميل، وأنْ يكملوا في سكتة الإمام قراءة فاتحتهم، وأنْ يدْعوا فيما بين خطبتيه بما شاؤوا.

لا يرفع (الثبيتي) صوته كما يفعل آخرون، ولا يركضُ بشعره طويلاً، ولا يعيده كلما صفّق المستمعون..، وإنما -على العكس من ذلك- يجاهد كثيراً كثيراً ليبلغَ بصوته الصفَّ الأول، ويمدِّد حبال صوته ما أمكنه ليصافحَ كلَّ أذن..، تدركه نوبة سعال فيتوقف، وتحيط به حالة استذكار فيغمض عينيه..، وفي اللحظات كلِّها تعيش أنتَ الانتظارَ الجميل..، فتكمل بناء الهيكل الذي بدأه، وتلوّن الصورةَ التي رسمها، وتعزف على الوتر الذي شدّه، وتراقصُ خصرَ الخيال الذي خلقه.

صوت الصمت هو ما يميز إلقاء (الثبيتي) عن إلقاء غيره من الشعراء. كثير من الشعراء يملكون صوتاً قوياً ولكنّ العبقرية الحقيقية - كما تعبر (وليامز) - تكمن في القدرة على جذب الانتباه من خلال فترات الصمت المؤثِّرة، وذلك حين يأخذ مقطعُ الصمت المستمعين إلى الإصغاء بشدة أكبر؛ انتظاراً للصوت الذي سيملؤه، وللكلمات التي ستكمل بناء المعنى أو المغزى، وهذا تحديداً ما يميز (الثبيتي) عن غيره.

على المنصة جلس (الثبيتي) فقامت الكلمات كلُّها، تنحنح ثم قال: «بوّابة الريحِ»، وأخذ يشدو:

مضى شراعي بما لا تشتهي ريحي

وفاتني الفجر إذا طالت تراويحي

أبحرتُ تهوي إلى الأعماق قافيتي

ويرتقي في حبال الريح تسبيحي

في تلك اللحظة لم يكن هناك سؤال أكبر من السؤال عن بوّابة الريح، وفي ظلِّ اشتعال السؤال في أذهان المستمعين، رفع (الثبيتي) صوته بالبيت الرابع:

بوابة الريح ! ما بوّابة الريح؟

شعرنا في تلك اللحظة أنه نحن، وأنّنا باستماعنا إليه نوجّه مسارَ القصيدة، نضع علامةَ تعجبٍ هنا، وعلامةَ استفهامٍ هناك..، وبانتهاء البيت الرابع، صمتَ (الثبيتي) حتى ظن المتعجِّلون أنه فرغ، وحين صمتَ هبَّ كلُّ واحد يبحث عن الإجابة، وهو يشدو بصمت مزعج: (بوّابة الريح! ما بوّابة الريح؟).

ذلك الصمت أضفى على القصيدة حالةً لا يمكن تحديدُها بدقة إلا حين نقرأ القصيدة، لأننا سنجدها خالية من تلك الحالة رغم انطوائها على شيء كبير من الجمال؛ ذلك بأنّ الإلقاء كان سبباً في منحنا لحظةً خاصة، هي نفسها لحظةُ الكتابة بجمالها وجلالها.

لكلِّ شاعر تعامله الخاص مع الإلقاء، غير أنّ أكثرَ الشعراءِ عبقريةً هو الذي يكتب شعره إلقاءً، ويسمح للناس من حوله أن يشاركوه لحظات خلق القصيدة بآذانهم..؛ وذلك من خلال لحظات صمته، ونظرات تأمله. أدعو القراء الكرام إلى متابعة إلقاء (الثبيتي) -شفاه الله تعالى- من خلال موقع (you tube).

Alrafai16@hotmail.com الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة