Culture Magazine Thursday  20/05/2010 G Issue 311
فضاءات
الخميس 6 ,جمادى الآخر 1431   العدد  311
 
رجال من حضرموت (2)
عبدالقادر بن عبدالحي كمال

ترددت كثيراً أي الرجال أختار، وكلهم كرام وكلهم ذوو شأن، تحلوا بفضل، وتحلوا بكرم، ولهم من سجاياهم مايكسبهم حمدا، ويورثهم مجدا، يقول الماوردي في أدب الدنيا والدين: (المروءة مراعاة الأحوال إلى أن تكون أفضلها حتى لا يظهر منها قبح عن قصد ولايتوجه إليها ذم باستحقاق)، وسبق أن أشرت في مقالين سابقين أن إخوتنا الحضارم قد تحلوا بكريم السجايا في توادهم وتراحمهم، يضربون المثل تلو المثل على كمال المروءة ونبل الطباع، يحدثنا القرآن الكريم في سورة القصص عن كمال المروءة في قصة موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، عندما خرج من المدينة خائفاً يترقب، ثم توجه إلى مدين، فلما ورد الماء وجد عليه أمة من الناس يسقون ومن دونهم امرأتين تذودان، قال: ما خطبكما؟ قالتا: لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير، فسقى لهما وقال: رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير، ثم جاءته إحداهما تمشي على استحياء وقالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا، ومن كمال مروءته عليه وعلى نبينا أفضل السلام أنه عندما تقدمت المرأة قال لها، كوني من ورائي فإذا اختلفت عليَّ الطريق فاحصبيني، تجنبياً منه عليه السلام النظر إلى هيئتها وجسمها حياءً وعفة وهذا من خلق الأنبياء والصالحين.

لعمري إن من المروءة والفضل أن يفتح المقتدر بيته لقصاده صباح مساء، ورأيت المثل التطبيقي عند إخواننا الحضارم أثناء زيارتي لحضرموت مع ثلة من زملائي الخيرين، استضافنا السيد محمد الكاف في تريم، ووجدنا بيت الوجيه الكريم المهندس عبدالله أحمد بقشان في خيلة مفتوحاً تناولنا فيه طعام الغداء، ولقينا منزله في المكلا مشرعاً لاستضافتنا ليومين متتالين، استضافنا السيد الكاف والمهندس بقشان وكلاهما بعيد عن البلاد (استضافة عن بعد) وهذا والله من كمال المروءة وحسن الخلق وكريم السجايا والطباع، ويعلم الله أني لم أقابلهما، وأحسب أنهما لوقابلوني لما عرفوني، ولو قابلتهم لما عرفتهم، ولكنها الخلال الحميدة تستنطبق الشكر حتى وإن ضنيت به، وذكر الطيبين من أوجب الواجبات، قرأت عن الشهم عبدالله بقشان أنه أسهم بكرمٍ وطيبة نفس في إنشاء كليات ومعاهد وبعثات وتنمية بشرية ومشروعات ثقافية، إنه بهذه الأعمال يستحق أن نقول عنه إنه صاحب مروءة، هذا الخلق فيه ليس محدثاً فآباؤه وأجداده على هذه الأخلاق، أذكر في ذلك أنا كنا على مقاعد الدراسة لشاعر حضرمي أبياتًا تدل على المروءة والأفعال المستحبة والآداب التي تحمل الإنسان على التحلي بمحاسن الأخلاق وجميل العادات من برٍ وإحسان وحنو وتواصل ومساعدة للغير وترفع وإغضاء وحياء وعفة، ذلكم هو المقنع الكندي الذي اشتهر بهذا اللقب لأنه كان دائم التلثم لجماله ووسامته.

اسمه: محمد بن ظفر بن عمير بن أبي شمر، ينتهي نسبه إلى معاوية بن ثور بن مرتع بن كنده، ولد هذا الشاعر بوادي دوعن بحضرموت، وكان جده عمير سيد كندة، ثم تولَّى ابنه ظفر السيادة بعده وناوأه في ذلك أخوه عمرو بن عمير، فاحتدم الخصام، وتوارث الأبناء الخصومة، ولعلهم اشتطوا في ذلك على المقنع، فأرسل قوافيه الجميلة الرائعة معاتباً بني عمه وقرابته.

يقول المقنع:

يعاتبني في الدين قومي وإنما

ديوني في أشياء تكسبهم حمدا

ألم ير قومي كيف أوسر مرةً

وأعسر حتى تبلغ العسرة الجهدا

فما زادني الإقتار إلا تغرباً

ولا زادني فضل الغنى عنهم بعدا

أسد به ما قد أخلوا وضيعوا

ثغور حقوقٍ ما أطاقوا لها سدا

وإن الذي يبني وبين بني أبي

وبين بني عمي لمختلف جدا

فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم

وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم

وإن آثروا غيي هويت لهم رشدا

وإن زجروا طيري بنحسٍ يمر بي

زجرت لهم طيراً يمر بهم سعدا

أراهم إلى نصري بطاءً وإن هم

دعوني إلى نصرٍ أتيتهم شدَّا

ولا أحمل الحقد القديم عليهم

وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا

لهم جل مالي إن تتابع لي غنىً

وإن قل مالي لا أكلفهم رفدا

ماذا ننشد بعد هذا خلقاً ومروءةً وفضلا، رجل كريم تدفعه شيمته وأخلاقه إلى سد حقوق واجبة لبني عمه عندما يتعذر عليهم سدادها، ثم هذه المطابقة الجميلة التي توازن بين سلوكيات فاضلة وسلوكيات غير مستحبة: إن أكل قرابته لحمه وفَّر لحومهم، وإن هدموا مجده عمد إلى بناء أمجادهم، وإن ضيعوه حفظهم، وإن أحبوا أن يكون في غيٍ أحب لهم الرشد، يزجر الطير لهم في السعد حتى ولو زجروا طيره نحسا، وإن أبطأ قرابته في نصره، أسرع لنصرتهم، لهم جل ماله عند غناه وإن أعوزته الحاجة لايكلفهم رفدا تعففا، ولا يحمل الحقد عليهم، وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا، صدق المقنع رئيس القوم لايحمل حقداً ولا يكن ضغينته، يتسع صدره لتحمل الحمائل، وسد الثغرات، يواسي المكلوم، ويشدّ الأزر، ويعين وقت النوائب، يلقي فيهم رحله، ويصل بهم حبله، ويبدل ازدراءهم تقرباً وتقريباً، فلا تضيق ظلاله، ولا يحجب نواله، ولاترثُّ حباله، ومن كان على هذه الأخلاق والسجايا وصف بالشهم وأجله أهل الدراية والفهم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

وللحديث بقية إن شاء الله.

الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة