Culture Magazine Thursday  21/01/2010 G Issue 295
فضاءات
الخميس 6 ,صفر 1431   العدد  295
 
الخوف.. والثقافة
قاسم حول*

عندما شاهدت وأنا في مدينة البصرة الإعلانات الانتخابية لمحافظات العراق ومحافظة البصرة المطبوعة بشكل أنيق وعلى مواد طباعية مختلفة وأحجام مختلفة، تذكرت رواية "المقطورة" لمحمد شاكر السبع.. التي طُبعت إبان الحقبة الدكتاتورية من تاريخ العراق.. الرواية تقع في حوالي خمسمائة صفحة من القطع الكبير.. ووصولها بين يدي له حكاية ربما ستكون موضوعاً للكتابة يوماً.. لقد شدتني الرواية بشكل أرَّقني لمتابعتها لكثر ما هي مشوقة وجميلة ومتقنة البناء.. بناؤها الدرامي وبناء شخوصها.. هي رواية شجاعة وتستحق أن تأخذ مكانتها عربياً وعالمياً.. لكنني كنت أقرؤها بصعوبة، ولو لم تكن لها ميزات القوة والمتانة والجمال لما منحت نفسي معاناة قراءتها.. كانت الرواية مطبوعة بحبر تالف وحبر بخيل معتقداً بأن الطبّاع والمؤسسة الطباعية كانا يبخلان في تغذية المطبعة بالحبر عندما تنفد قابليته في اللون.. سطور الرواية مائلة في بعض الصفحات بحيث يصعب الانتقال في القراءة من آخر السطر إلى أول السطر الذي يليه.. وعندما أقرأ مزيداً من الفصول يصعب عليَّ فتح الكتاب فأجد بدايات السطور غائرة في "مسامير" التجليد.. وأؤكد على كلمة "مسامير" وهي مرئية في التجليد.

اليوم ورغم كل المشكلات الحقيقية لوطن مهدم، فقد أرسلت لي إحدى المؤسسات بروشورات وملصقات صغيرة عن منطقة الأهوار.. كنت أظن أنها طبعت في مطابع الغرب أو يطبعونها في تايلاند حيث الأيدي العاملة الرخيصة.. طباعة بدون مبالغة لم أر مثلها في هولندا، حيث أقيم وحيث كل شيء متطور.. سألت عن مكان الطباعة فخبروني أنها في مطابع البصرة.. كيف ومتى حصل ذلك.. وكيف ومتى جُلبت تلك المعدات الطباعية.. ومتى تكونت خبرة الطباعة لدى الطباعين؟

دلَّني هذا على أن الإنسان في الحياة هو مبدع لا ينقصه سوى التحرر من الخوف.. الخوف وحده هو الذي يميت الإبداع.. الخوف يؤدي إلى خمول المبدع وإلى كسل المبدع أو إلى هروب المبدع.. هذا الشأن لا يتصوره الطغاة.. ولذلك فهم يميتون أوطانهم وهم أنفسهم يموتون في النهاية وميتات مختلفة وتشبه"التراجيكوميدي".. يذهب معهم تاريخ حقب زمنية وتنساهم الأجيال.. مغرورون وقساة ولا أدمغة لديهم تدرك معنى الحياة ومعنى الثقافة في الحياة!

عندما دخلت قصور الدكتاتور العراقي لكي أصوِّر فيه فيلمي "المغني" لم يعجبني القصر رغم فخامته.. ولو أُهدي لي لرفضته لشدة ما هو موحش ومخيف.. حاولت أن أبحث فيه عن معنى للثقافة فلم أجد.. فلم تكن ثمة مسحة من الحياة.. هو أشبه بالسجن.. قلت لنفسي: ربما لأنه مهدم وخالٍ من الحياة.. أنتجت فيه الكهرباء من جديد.. ورممت ما هو مهشم فيه وجلبت أفخم الأثاث للمشهد السينمائي وأسكنت الممثلين فيه وبقي مخيفاً، وكلنا لدينا شعور بالخوف من جدرانه وممراته ودهاليزه وسلالمه.. سألت القوات التي دخلته عند الغزو أو الاحتلال عن اللوحات المسروقة منه قالوا: لم نجد شيئاً ذا قيمة.. طلبت من مدير إنتاج الفيلم شكل اللوحات فحصل لي في الإنترنت على اللوحات التي كانت في أحد قصوره ولكن ليس في هذا القصر فقد كان هذا القصر خالياً من اللوحات.. كانت هناك منحوتات على الجدران الخارجية للقصر، منحوتات لحمورابي ونبوخذ نصر.. ووضع صاحب القصر نفسه معهم وأحياناً في مقدمتهم.. منحوتون على جدران القصر الخارجية.. أما داخل القصر فإني قرأت اسمه ملايين المرات بدون مبالغة.. كانت الأعمدة مصممة من اسمه ومكونات المداخل الرخامية مكونة من اسمه.. السقوف كلها مكونة من اسمه من أنواع الأخشاب الثمينة.. ومن صفار البيض المداف بالأسمنت الأبيض حتى صعبت علي زوايا الكاميرا لأني لم أكن أريد للفيلم أن يتحدث عنه بالذات وأن يظهر اسمه على الشاشة.. إنما عن فانتازيا فكرة الدكتاتور حيث لست بصدد تصفية حسابات مع أحد.. قلت مع نفسي إن هذا الدكتاتور قد بذل كل هذا الجهد وبذَّخ كل تلك الأموال.. وأنا لا أستطيع قراءة رواية طُبعت في عهده لا تملك المطابع وسائل تجليدها بما يليق بالفكر، بالثقافة، وبالأدب وكانوا يسخّرون بالقوة عواطف الكُتّاب العراقيين ممن تبقى منهم داخل العراق ويشترون من بعض الكُتّاب العرب مواقفهم بالحقائب والساعات.. فيما الوطن تحت الحصار.. والمثقف تحت الحصار.. والمواطن تحت الحصار.. لا ثقافة.. لا مسرح.. لا سينما.. وكل هذه الزخرفات التي أمامي يكتبها الطغاة على الجدران وليس في قلوب الناس، لتبقى.

فجأة وتحت وطأة الاحتلال بعد غياب الدكتاتور ونظامه ومع الغزو والخطف وقتل المثقفين تزدهر المطابع وتطبع الكتب والملصقات في أبهى صيغة طباعية مع تصميم عصري وحديث.. فمن أين جاء كل هؤلاء وكلهم عراقيون وشباب يعرفون أسرار الحواسيب وبرامجها؟.. حركة دائبة.. صراع مع الخاطفين. ولكن ثمة إنتاج واضح.. في كل هذا الواقع ذهبت إلى صالات السينما فوجدت المهدم منها.. أو الذي تحول إلى مخزن للبضائع المستوردة.. سألت عن كمية علب الأفلام التي كانت في مخازن صالات السينما ومكاتب توزيع الأفلام.. أين اختفت كل تلك الأفلام.. وأين اختفى كل أولئك الممثلين؟.. لا أحد يعرف فيما إذا كانت قد أحرقت أم أن عمال العروض السينمائية قد حملوها خوفاً واعتزازاً بتلك الأفلام إلى بيوتهم.

سألني الصحفيون ومراسلو القنوات الفضائية.. أين ستعرض فيلمك هذا بعد أن تنتهي منه؟! أكيد سوف يُعرض في الغرب لأن الإنتاج فرنسي.. لكن الموضوع عراقي.. والممثلين عراقيون.. وأنا مخرج الفيلم عراقي.. لا أعرف أين أعرض فيلمي هذا؟.. لست وحدي.. هناك مخرجون شباب صاروا ينتجون الأفلام الروائية بدون توقف.. والأكثر غرابة أن صناعة السينما تحتاج إلى قاعدة مادية للإنتاج وهي غير متوفرة بعد.. تحتاج إلى مدينة سينما وقدمت أنا للدولة مقترحاً بتحويل منطقة القصور الرئاسية وهي واسعة وأظنها أكبر من هوليوود لتتحول إلى مدينة سينما وقد استعملتها بشوارعها بجسورها مكاناً لتصوير فيلمي "المغني" ولكن القرار ليس سهلاً لتحويلها لمدينة سينما ضمن عملية الصراع الاجتماعي القائمة.

قد يبدو السؤال منطقياً كيف كنت تصور المشاهد الداخلية عندما تغيب الكهرباء.. المولدات الكهربائية ممكنة في المطابع والشركات.. ولكنها غير ممكنة في السينما لأنها تخرج صوتاً.. فكنت أخاطب في الهاتف مدير الكهرباء وأحدد له منطقة التصوير.. وكان يكرمني أحياناً بساعتين من الضوء أستعين بهما وأتعجل التصوير.

إنني لو قارنت كل حقب العراق التي كانت مضطربة سياسياً بهذا الشكل أو ذاك لوجدت أن حركة السينما اليوم هي البداية الحقيقية الجادة التي قد تُنشئ حركة سينما صحيحة وحارة وصريحة وحتى مجنونة. فثمة إصرار على نهضة سينمائية مع أن الظروف هي أقسى كل المراحل التي مرت.. ثمة سر في رغبة النهضة وبخاصة نهضة الثقافة وهناك رغبة في التحدي ليس فقط السياسي.. ولكن الاجتماعي أيضاً. حينها عرفت سر الطباعة الأنيقة.. سر الحرية.. حرية التعبير طالما أن الكسل والخمول ورغبة الفرد الواحدة المفروضة على الآخر قد ولّت إلى غير رجعة، فإن الثقافة تنهض والآن دُور النشر تفتح أبوابها على أرصفة الشوارع عندما تتهدم دور النشر بفعل العمليات الإرهابية.. لقد كثرت دُور النشر بشكل واضح ولافت للنظر والمطبوعات أنيقة وحركة القراءة ظاهرة والكتب تنفد من الأسواق وتعاد الطبعة أكثر من مرة.

إن السر في تصوري هو غياب الخوف.. لأن الخوف لم يكن هاجساً فحسب، بل كان ظاهرة مادية دخلت المدينة ودخلت الشارع ثم دخلت البيت ودخلت غرف النوم.. هذا الخوف هو الذي اختفى.. الخوف المنظم.. الخوف المادي.. الخوف الذي تزرعه السلطة ظناً منها أنه سر بقائها وديمومتها دون أن تدرك أنها سر زوالها، لأن الذين يزرعون الخوف لن يحصدوا سواه!

لم يكن باستطاعة كل ذلك العدد من مبدعي مدينتي البصرة أن يأتوا بكل حرية.. وأن لا يبدأوا التمثيل في الفيلم بل جاؤوا ينقلون قطع الأثاث ويكنسون منطقة التصوير ويزرعون الحشائش ويعيدون للنخيل بهاءها ثم يمثلون في تلك المواقع التي ينظفونها وينظمونها.. لم يكن يحصل كل ذلك في تلك الحقبة.. لذلك أصاب الصدأ الكاميرا السينمائية، وتم تجليد رواية "المقطورة" بالمسامير فيما اليوم تحولت منطقة القصور بكاملها إلى ورشة عمل سينمائية.. وزارني الكثير من أدباء البصرة كي يروا كيف تجري التجربة السينمائية.. الصراع لم يعد مع الخوف.. صار صراعاً مع أيديولوجيا تأتي سريعاً وتروح.. صراع مع محتل يأتي سريعاً ويروح.. المهم تهدم حاجز الخوف الذي كان يأسر الثقافة.. ولذلك شاهدت تلك المطبوعات الأنيقة وسط دبابات القوات الأمريكية والبريطانية التي تجوب الشوارع.. وكنت أصور الفيلم وأصور تحركاتهم.. فيما كان أي شرطي - علني أو سري - قادراً على أن يزج بأي مواطن يحمل كاميرا صغيرة شخصية في السجن وقد يختفي.. الصحون الفضائية على البيوت.. والناس بدأت تتحدث في الهاتف النقّال الذي كان ممنوعاً.. والمطبوعات تزدهر والانفجارات تسمع هنا أو هناك.. ولكن الإنسان قادر على أن يرفع صوته احتجاجاً.. وبدأت حركة ثقافة جديدة تنمو في العراق من جديد ويطبع المؤلفون كتاباتهم بسهولة وبأناقة.. وأنا صوَّرت فيلمي "المغني" ولم يطلب مني أحد أن يقرأ النص. عرفت أن الخوف لا يكمن بحركة الآليات العسكرية في الشوارع.. بل هو يكمن في شكل رواية طويلة مطبوعة سطورها بشكل مائل وبحبر تالف ومجلّدة بالمسامير!

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244

هولندا sununu@ziggo.nl

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة