Culture Magazine Thursday  21/01/2010 G Issue 295
فضاءات
الخميس 6 ,صفر 1431   العدد  295
 
الممارسة النقدية.. بين (التطويق) و(التحليق)
عمر بن عبد العزيز المحمود

حين عقدت الفئران تلك القمة التاريخية لحل الأزمة (القِططية) التي باتت تؤرقهم خرجت التوصيات بحل جازم حازم يقضي بتعليق جرسٍ صغير ذي صوتٍ قويٍّ رنَّانٍ في رقبة ذلك القط المتوحش حتى تتنبه الفئران حين يقترب منها ويشن عليها هجومه العنيف، وحين لاقت هذه الفكرة (الجهنمية) استحسان الجميع شرع المهندسون على الفور في رسم (القواعد المحكمة) و(المخططات المتقنة) استعداداً للتنفيذ، كما تم استيراد أفخم أنواع الأجراس وأروعها، وتكفل أحدهم بصنع حبل متين ليكون الطوق الذي سيُعلَّق هذا الجرس فيه، وحين أوقدت هذه (الإجراءات) شموع الفرح وبعثت بوارق الأمل في نفوس تلك الفئران اليائسة رفع أحدهم يدَه مُداخِلاً: (إنها فكرة عبقرية.. ولكن!) وهنا اشرأبت الأعناق للإصغاء إلى هذا الاستدراك/الاغتيال، وتأهب جماعةٌ للرد عليه ممسكين ب(نظريات) الفكرة و(قواعد) التنفيذ، وهنا ابتسم المتحدِّثُ ابتسامة خبيثة وهو يرمق بحسرة هذه (المخططات) المرسومة، وقال بصوت هادئ مُغمِضاً عينيه: (ولكن.. مَن سيعلِّقُ الجرس؟).

تذكَّرتُ هذه الحكاية الطريفة وأنا أتابع المشهد النقدي، وأرقب ذلك التركيز المبالغ فيه على النقد النظري والاحتفاء به على حساب النقد التطبيقي، فمعلومٌ أن النقد -ابتداءً- لا يوجد إلا بعد أن يوجد النص الإبداعي الذي يتولى هذا النقد صقله وتوجيهه، ورغم ذلك نلاحظ في مطالعاتنا الإعلامية والأكاديمية طغيان النقد النظري بشكل لافت، فأغلب الكتب المؤلفة فيه، وأكثر المقالات المدبجة حوله، فهذا يُذكِّر بنظرية قديمة، والآخر يدعو إلى نظرية جديدة، حتى الملتقيات والأمسيات تحولت للبحث في قضايا النقد النظري، وإشكالاته التي لا تنتهي، ومصطلحاته الهلامية التي ربما اختلف مفهوم واحد منها إلى عشرات المفاهيم عند الناقد الواحد!.

ثم إنَّ أغلب هذه البحوث والمقالات التي تتناول النقد النظري وقضاياه عادة ما يكون الخطاب فيها نخبوياً موجهاً إلى فئة خاصة من المثقفين، وبالتالي تكون الفائدة منها محدودة جداً، ولا شكَّ أنَّ الكاتب حينما يؤلف كتاباً أو ينشر مقالاً فإنه يطمح إلى استقطاب أكبر عددٍ من القراء لمشاركتهم هذه الفكرة وترقُّب ردَّة الفعل التي تصدر من بعضهم؛ مما سيثري موضوعه ويفتح في ذهنه آفاقاً جديدة ورحبة لكثير من جوانبه؛ وأتذكر في هذا السياق عبارة إحدى الأديبات في لقاء صحفي حين قالت: ((إنَّ مَن يكتب لفئة أو لنخبة فالأجدر له أن يحرق نتاجه قبل أن يطوق نفسه بالعزلة ويموت مغمورا)).

ما أود أن أؤكد عليه هنا هو قضية الإغفال الواضح للنقد التطبيقي وعدم إعطائه حقه في الدراسات الأكاديمية والإعلامية، والانزياح شبه التام إلى النقد النظري بكافة جوانبه، ولعل هذا يفسر هروب المبتدئين من الطلاب وغيرهم عن خوض غمار هذا الفن وتجريب إبداعاتهم فيه، وأنا ألتمس لهم العذر في ذلك؛ إذ إنَّ من يرى المشهد النقدي ويعايش واقعه يلحظ الضمور الواضح في أحد طرفيه، وهذا الأمر – كما أرى- يُسبِّب تشوهاً في الشكل الخارجي للنقد، ويؤدي إلى غياب الكثير من صور التجديد والإبداع التي تنتظر فرصة لإظهار مواهبها.

وهذا الوضع الذي عليه النقد الآن يوحي إلى الكثيرين بأنَّ هذا الفن الجميل والإبداع المتألق ما هو إلا مجموعة من النظريات الجافة التي تكدَّست على مرِّ الأزمان، يتناقلها النقاد ويختلفون حولها، فيزيدون وينقصون ويؤيدون ويعترضون، وفي النهاية يتفقون على عدم الاتفاق، ويخرج المتلقي بعد هذه المعارك دون طائل بعد أن خاب ظنه في هذا الفن الذي كان قد تصوَّر أنه مَنبعٌ للإبداع، ومَنجمٌ غنيٌّ لإظهار المواهب، وسبيلٌ للكشف عن مستوى ثقافة الناقد، وطريقة تفكيره، وجمال أسلوبه ولغته، وذلك من خلال نقده للنص وتعامله معه وقراءته لأبعاده وزواياه، وبالتالي الاستفادة من هذه التجربة وغيرها في التعامل مع النصوص وطريقة تذوقها ونقدها والاستمتاع بها، وهذا الظن هو الذي يُفترض أن يكون في دراستنا للنقد وتدريسه.

إنني هنا لا أنكر أبداً وجود دراسات تطبيقية للنقد، لكنني أزعم أنها قليلة جداً مقارنة بالدراسات النظرية، كما أنني لا أنكر فائدة هذه الدراسات النظرية للنقد، لكنني أدعو إلى مزيد من الاهتمام بالدراسات التطبيقية؛ لأنها هي التي تحقق الفائدة المرجوة من هذا الفن بوضوح وفاعلية؛ ولذلك فإنني أدعو النقاد إلى انتهاج هذا النهج في تأليف كتبهم وإبداع مباحثهم ومقالاتهم، فبدلاً من تقرير قواعد وصياغة نظريات ربما لا وجود لها على أرض الواقع فلنتجه إلى ديوان شاعر أو قصيدة منه أو رواية أو أي عملٍ أدبي إبداعي ولنقرأه قراءة تأملية نقدية، ونطبق عليه ما نريد من تلك النظريات، وبهذا تحصل الفائدة والمتعة للجميع، فالناقد من جهة وجد أرضاً خصبة لإبداء آرائه وتوجهاته وما صاغه من نظريات، واستطاع أن يبدع وينقد ويتعامل مع النص بأسلوبه ولغته مُظهراً موهبته من جهة أخرى، كما أنَّ القارئ استطاع أن يفهم تلك النظريات الموضحة بالمثال الحي المباشر من جهة، واستمتع بقراءة الناقد للنص؛ مما فتح أمامه أبعاداً رؤيوية وفضاءات واسعة للتأمل من جهة أخرى، وبالتالي الحكم بعدل واطمئنان على العمل الأدبي والقراءة

Omar1401@gmail.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة