Culture Magazine Thursday  22/04/2010 G Issue 307
أقواس
الخميس 8 ,جمادى الاولى 1431   العدد  307
 
تريم العلم والجوامع والتراث عاصمة للثقافة الإسلامية

الحضارم قوم لا يحبّون الحصر، ولا يميلون إلى الجثوم، طُبعت جبلّتهم على الحركة والعامل وليس فيها للسكون موضعاً، ولهذا كثرت هجراتهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانا، ومن العدل أن نقول إن بلادهم جميلة إنساناً ومكاناً، والحضرميون نسبة إلى حضرموت بن سبأ الأصغر وإليه نُسبت حضرموت..

ورغم قرب هذه البلاد الجميلة من بلادنا الحبيبة، ومعرفتنا بكثير من أهلها الطيبين، إلا أن كثيراً منا لم تحدثه نفسه بزيارتها، حتى كانت الدعوة الكريمة من ثلوثية الدكتور عمر عبدالله بامحسون ورعاية الوجيه عبدالله أحمد بقشان، دُعي إليها ثلة من الأكاديميين والصحفيين السعوديين بمناسبة إعلان تريم عاصمة للثقافة الإسلامية لهذا العام.

حطّت بنا الطائرة ضحى الثلاثاء 28-4-1431هـ في مطار سيئون التي يقول عنها الشاعر حسين المحضار:

لي زادك الشوق والحنّه

اعزم ورد راسك قدا سيئون

سيئون يا راغب الحنّه

روضه مدنه

الفن لقي فيها بنّه

واخضر غصنه

وأهل الهوى منها يجنون

ومن المطار بالحافلة إلى كلية التربية بجامعة حضرموت، حيث ألقى الزميل الدكتور عبدالرحمن الشبيلي محاضرة بعنوان (التأثير الثقافي المتبادل بين حضرموت وبلاد الحرمين الشريفين) وهي محاضرة ماتعة باتعة ألقت الضوء على عمق التواصل الثقافي بين بلاد الحرمين وحضرموت قديماً وحديثاً، وأشاد المحاضر بالتفاتة رموز المهاجرين من أبناء حضرموت إلى واجبهم النبيل في نفع موطنهم الأصلي ثقافياً وتنموياً، مترجمين بها ما حثّهم عليه ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير سلطان بن عبدالعزيز في أثناء زيارته للمكلا في جمادى الأولى عام 1427هـ حيث قال: «الخسارة مع الأخ ربح»، فنجد على سبيل المثال لا الحصر إسهامات آل بقشان وآل بن محفوظ وآل باحمدان وبامحسون وآل العمودي والباروم وغيرهم من الكرام. وفي مساء ذلك اليوم كان موعدنا مع مدينة تريم التي سُميت باسم بانيها تريم بن حضرموت، وهي مسكن السادة آل باعلوي، وأول من استوطنها منهم جدهم الأكبر أحمد بن عيسى بن علي بن جعفر الصادق، قدم إليها من البصرة عام 345هـ، وتقع تريم على الضفة اليسرى لوادي حضرموت، محاطة بالمرتفعات الرسوبية، ومناخها قاري نسبي. ومن حصونها حصن الزناد، وحصن العُر، وتكثر فيها المساجد بما يفوق غيرها، وأشهرها مسجد المحضار المتميز بعمارته ومئذنته الفريدة. كان موعدنا في مدينة تريم للمحاضرة الثانية للدكتور عبدالرحمن الشبيلي بعنوان (مكة المكرمة وتريم توأمة تراث) أوضح فيها ما بين مكة المكرمة ومدينة تريم من توافق في التراث وأنها -أي تريم- مدينة الجوامع والمدارس العلمية ومجالس العلماء والفضلاء، وصوامع المخطوطات ودور الفقه والإفتاء، وهي مخزن ضخم للتراث الفكري، ويكفي أنها بعراقتها تضم أكبر مكتبة للمخطوطات (دار الأحقاف). ويقول الهمداني في الإكليل بأن تريم موضع الملوك من بني عمرو بن معاوية وهم الفصل الكندي الرئيسي في حضرموت الذين يُنسب إليهم الملوك من كندة. ولأهالي تريم السبق في الهجرة إلى الهند التي هاجر إليها بعض من السادة العلويين سنة 617هـ دعاة للدين الإسلامي، إذ خرج جدهم عبدالملك من علوي وانتشرت ذريته في بروج وأحمد آباد وما بينهما، والفاتحون لجزيرة مدغشقر وجزائر القمر هم السلاطين من السادة العلويين الحضرميين. ولمدينة تريم دور كبير في نشر العلم من خلال المعاهد والأربطة، ولهذا قصدها كثير من طلاب العلم وخاصة من دور شرق آسيا وإفريقيا.

وكان من ضمن برنامجنا زيارة رباط تريم للعلوم الدينية والعربية، الذي تأسس على أيدي فضلاء من آل الشاطري وآل الحداد وآل الجنيد وغيرهم سنة 1305هـ أي منذ مئة وستة وعشرين عاماً، والدراسة في هذا الرباط تعتمد على حلقات ويدرس فيه العلوم الدينية بأقسامها واللغة العربية بأقسامها، ومنه تخرّج علماء فضلاء احتلوا الصدارة في مجتمعاتهم.

وتضمن برنامج الرحلة أن نمرّ على مدينة شبام لنتعرف على قصورها الطينية التي يبلغ ارتفاعها سبعة أدوار، ورغم أن الأبنية تقادمت إلا أنها تغالب دواعي الزمن وعادياته. وعندما مررنا بوادي دوعن وهو وادٍ به عدة قرى تذكرت قول الشاعر حسين المحضار:

خلوني على صبري

خلوني على جمري

معك صابر سنين

منّك يا عسل دوعن

قوت العاشقين

وادٍ جميل تتناثر فيه القرى يميناً وشمالاً ويجنى منه العسل الحضرمي المشهور، ومن قرى هذا الوادي الجميل آل بقشان وآل باهبري والعمودي وغيرهم من العوائل الكريمة المعروفة. وتناولنا الغداء في خيلة بقشان بوادي دوعن ومن ثم إلى المكلا المدينة الساحلية الجميلة التي زرنا بها مؤسسة الصندوق الخيري للطلاب المتفوقين، أسس في مدينة الرياض عام 1989م ولاحقاً تأسس الصندوق الخيري بطريقة رسمية في حضرموت عام 2005م، ويرجع فضل تأسيسه للدكتور عمر عبدالله بامحسون بتشجيع ودعمٍ من عبدالإله بن سالم بن محفوظ الذي تبنى هذا المشروع ثم توسعت قاعدة الداعمين. كما زرنا مؤسسة حضرموت للتنمية البشرية التي تأسست عام 1427هـ، وهي مؤسسة تعددت برامجها ومشاريعها من إعداد الطلبة في المرحلة الثانوية للالتحاق بالجامعة وإنشاء معهدين للغة الإنجليزية في المكلا وسيئون وإيجاد مكتبة لكل صف مدرسي، والقيام بالتعليم الفني والتدريب المهني وإنشاء كلية الأمير سلطان للتقنية والابتعاث الخارجي. ويأتي في مقدمة أهداف هذه المؤسسة تفعيل دور المجتمع المدني في تحسين نوعية التعليم وتحقيق تنمية بشرية فاعلة.

لقد آمن الإخوة الحضارم بأن الصدق يوجب الثقة، والأمانة توجب الطمأنينة، وحسن الخلق يبني المودة، والجد يحقق الرخاء، والمنفعة تصحبها المحبة. بهذا جرت طبائعهم، وارتضتها دواخل أنفسهم فامتزجت بها، راضوا أنفسهم على كل أمر محمود العاقبة، وتعاهدوا على القيام بواجب الحقوق لأهلهم وذويهم، علموا أن تثمير المال آلة للمكارم وعون على الدين ومأتلف للإخوان، فكان هذا نهجهم، منهم من اتجه للمصارف ومنهم من اتجه للبناء والتعمير، ومنهم من اتجه إلى إقامة المشافي والإسهام في التعليم، وفي طباعة الكتب وكفالة طلبة العلم وتأسيس المكتبات والإسهام في نقل الحجيج، والإسهامات المقدرة في الصوالين الأدبية مثل ثلوثية بامحسون وخميسية باجنيد. وإن نسيتُ فلا أنسى الحنوّ والعطف الذي ملأ قلوب الحضارم تجاه كل حضرمي يأتي من بلاده للمملكة، يستقبلونه ثم يدفعونه للعمل حتى لا يكون عاطلاً أو متكففاً. هذه النبتة التكافلية الجميلة التي ترعى أبناء جلدتهم حفّزت الحضارم على العمل الشريف لأنهم في قرارة أنفسهم يشعرون أنه ما قبَّح الرجال كالوكال. على أنهم في ليالي سمرهم يستمتعون بالإنشاد ويميلون إلى غنائيات الشاعر الفنان حسين أبو بكر المحضار الذي يقول:

تغالط الناس تنكر حب واضح

وضّح دمعك لهم توضيح

مالك وللناس لانته صدق ناصح

خل كل من بايصيح يصيح

واصبر على اللكع والتجريح

وعلى المذلات منهم والمهونة

ما دام للحب في قلبك

يا خلّ أسرار مكنونة

دعهم ودع ما يقولون

حقيقة سعدت بزيارة هذا الجزء الغالي من وطني الحبيب، فكل بلاد العرب لي وطن. وحضرموت تجلت وتحلت بإنسانها الشهم الأمين الصادق الصدوق المحب للخير والفاعل له، كرمت أحسابهم وتأصلت جذورهم، وتخلقوا بأحسن الأخلاق كرماً وتواضعاً ودماثة، حسنت أعمالهم فبذروا بذوراً صالحة كانت ثمراتها بناء الإنسان في حضرموت. ولهذا عندما تشرفت بدعوتهم لزيارة حضرموت، ورغم الوقت القصير، إلا أنني عبّرت عن سعادتي بقصيدة متواضعة سعدت بإلقائها في كلية التربية بجامعة حضرموت في سيئون بعنوان (تحية حضرموت):

جئتُ أشدو في محفلِ التكريم

بين صيدٍ من خيلةٍ وتريم

والمكلاّ ودوعنٍ وشبامٍ

ومغاني الإجلالِ والتعظيم

وألاقي في حضرموت رجالاً

أشعلوا النور وسط ليلٍ بهيم

جئتُ من نجدْ للجنوب أغنّي

ومشيداً بكل شهمٍ كريم

من رجالاتكم بناةِ المعالي

ومقيمي منارةِ التعليم

كم أشادوا في كعبةٍ الله ذكراً

يتهادى من زمزمٍ للحطيم

ولهم في اقتصادنا نفحاتٌ

عينُها من مزاجة التسنيم

جئتُ يا حضرموت ملءُ شعوري

شكرُ من ساهموا بخير عميم

حاملاً مصحفي وطيب بلادي

وسلاماً من كل قلب حميم

في إهابي أريجُ زهر الخزامى

وصلاة من مسجد التنعيم

وعلى مفرقي إضاءاتُ قومي

من قريش وعنزةٍ وتميم

جئت يا حضرموت فيكِ أغنّي

سامرياً من سامريِّ القصيم

فاعذريني إذا تعثّر بَوْحي

ما أنا اليوم مُحسِن البارومي

وإذا ما أجدتُ ترجيع لحني

فلأني في الشِّحر أو في تريم

ثلاثة أيام ونحن في ربوع هذا الجزء الغالي من الوطن العربي الكبير كانت من أمتع الأيام وأجملها حيث ضمت رحلتنا بعض الأكاديميات السعوديات الفاضلات (الدكتورة سعاد المانع، الدكتورة عزيزة المانع، الدكتورة نورة أبا الخيل، الدكتورة عزة شاهين) وكنّ مثالاً للمرأة السعودية الأبية المثقفة الواعية المحافظة، أثروا اللقاءات بمداخلاتهن الموضوعية القيمة التي تنبع من معرفة وإدراك، وتبين عن ثقافة وسعة اطلاع. وأسهمت الدكتورة عزة شاهين بمحاضرة قيمة عن العمارة الإسلامية في حضرموت، حظيت بمداخلات عديدة، كما كان لزملائنا الكرام دور كبير في إثراء اللقاءات وتبادل الآراء والأفكار. ومن دواعي سرورنا وغبطتنا أن مضيفنا هو الدكتور عمر عبد الله بامحسون وزميله الأستاذ الأديب عبد الله العمودي، أحاطانا برعايتهما واجتهدا في تكريمنا وجهدا في الإشراف على راحتنا وتنقلاتنا وترتيب برنامجنا بما لا يسعهما شكر إلا بالدعاء لهما. وقد واكبتنا رعاية الوجيه المهندس عبد الله بن أحمد بقشان في حلنا وترحالنا.

كان دائم السؤال والتعقيب ليطمئن على استمتاعنا بهذه الرحلة الجميلة والزيارة الرائعة. ولعلي أردد مقولة الفنان أبوبكر سالم بلفقيه:

الدار دارك وأهلك عدّهم أهلي

يا فرحة الدار لي عادوا لها الخلان

من يزرع الخير بايحصد وبايجني

ويعيش في قصر عالي شامخ البنيان

عبد القادر بن عبد الحي كمال
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة