Culture Magazine Thursday  22/04/2010 G Issue 307
فضاءات
الخميس 8 ,جمادى الاولى 1431   العدد  307
 
في اليوم العالميّ للشعر:
أعيدوا الرسائل إلى أصحابها!
د. شهلا العجيلي

ليس مغامرة أن نقول إنّ سطوة الشعر العربيّ تاريخيّاً تأتت من باب اليقين، فالشاعر صاحب رؤية واضحة تجاه ظواهر الواقع والطبيعة، وينبع منها تصوّره للقضايا الغيبيّة، والأخلاقيّة، والجماليّة. إنّ يقين الشاعر شخصيّ، قد يكون فرديّاً، وقد يكون ذاتيّاً، ونادراً ما يكون جماعيّاً، لأنّه سيتحوّل في ذلك إلى كائن نسقيّ يصعب أن يثير الغرابة أو الدهشة، التي هي شرط رئيس من شروط تحقّق الشعريّة، ذلك أنّ الاستغراب والتعجّب حركة للنفس إذا اقترنت بحركتها الخياليّة قوي انفعالها وتأثّرها، على حدّ قول (حازم القرطاجنيّ).

تتمّ ممارسة الشعراء ليقينيّتهم في المرحلة التي ينفصل فيها الصادق عن العادل، مع وجود وعي كونيّ بإمكانيّة توحّدهما، لذا لا دور للشعراء في مدينة أفلاطون الفاضلة، لأنّ العادل فيها لا ينفصل عن الصادق، كما أنّه لا دور لهم في الرؤية الإسلاميّة الفقهيّة، لأنّها تفترض أنّ دار الإسلام مبنيّة على وحدة الصادق والعادل!

انطلق الشعر العربيّ في مراحله كلّها من تلك الرغبة المبطّنة لدى الشعراء، أو المعلنة لدى المنظّرين، في إعادة الصادق إلى العادل، إلى أن وصلنا إلى هذه المرحلة من تاريخ الشعر، مرحلة ما بعد الحداثة، التي تقوم على تسليم كونيّ بالصراعات التي لا يمكن حلّها حلاً عادلاً، وعلى هذا الإحباط الأخلاقيّ تقوم حياتنا، إنّها تقوم على تسليم كونيّ بعدم إمكانيّة اجتماع الصادق والعادل معاً، فالإدلاء بشهادة عن الخلاف فوق أيّ حلّ له، لأنّ أيّ حلّ هو ظلم إضافيّ لا يمكن تبريره بالقول بأنّه حلّ للظلم الأوّل، لذا يفتقد الشعر دوره الفاعل في هذه المرحلة، لأنّ يقينيّة الشاعر تتنافى مع أن يقوم الشعر بالإدلاء بشهادة عن الخلاف، فحسب! لذا ينسحب شعر ما بعد الحداثة إلى زاوية بعيدة عن اهتمامات عناصر البنية الثقافيّة- الاجتماعيّة العربيّة، ويختصّ بالتفجّع على فقدانه ميدان اللعب الذي كان يراوغ فيه لإيصال الصادق إلى العادل، لقد تبيّن اليوم أنّ ذلك الميدان الذي تعلن البشريّة إغلاقه، لم يكن مجلى لألعاب الشاعر اللغويّة، بقدر ما كان مجالاً لألعاب أخلاقيّة. يقتضي قبول هذا التفجّع فهماً مغايراً من قبل المتلقّين لدور الشعر، وللأخلاق الجديدة من ورائه، أي يقتضي إحداث اضطراب في طرق الفهم شبه المستقرّ، ومنها النظرة إلى كلّ من اليقينيّ والجليل، فالجليل آنيّ، كشهاب، واليقين متغيّر ومحاط بأقصى حالات النسبيّة.

لعلّ قدرة المتلقّين على الدهشة انحسرت، بسبب الطوفان المعرفيّ، إذ على الشاعر إدخال العالم المتخم بالمعارف من خرم إبرة، وعلى المتلقّي أن يكون أشبه بسدّ من الثقافة، ليتمكّن من استقبال هذا الطوفان، وفرزه إلى ما يولّد لذّة آنيّة، و ما يدّخر للذّة مستقبليّة. لقد كانت المحاكاة، والتي تعني تحويل الواقع إلى صور، توهم بالحقيقة، بسبب جهل الناس بالحقيقة، فيبدو ما يصوّره الفنان لهم حقيقة لافتقارهم إلى صورة أخرى لها، لكنّها لم تعد منذ زمن عمليّة الاتصال الوحيدة بالوجود والعالم والإنسان، ولم تعد مصدر المعرفة الوحيد، كما لم تعد المصدر الرئيس للذّة الجماليّة.

إنّ الجزء المتبقي من اللذة الجماليّة للشعر، معرّض دائماً لمحاولات إفساد من قبل من يسميهم القرطاجنيّ ب (أخسّاء العالم)، أولئك الذين لا يحسنون مزج المعاني وتلوينها، أو المراوحة بينها، ويصرّون على تطبيق قاعدة المناسبة بين المقام والمقال على الشعر، ولعلّ بيتاً واحداً مثيراً من تاريخ شعر العرب ينسف هذه القاعدة برمّتها، هو بيت (جميل بثينة)، وصدره: ألا أيها الركبُ النيام ألا هبّوا...

فالمقام كما يبدو مقام خطب جلل، حرب، وذود عن نفس، أو مال، أو عرض، ليكون العجز: أسائلكم هل يقتلُ الرجلَ الحبُّ؟!

لعلّه من الإنصاف إلحاق (جميل بثينة)، بزمرة المجانين، فهو في عرف النسق شذّ عن القاعدة، إذ يستدعي المقام مقالاً آخر، أو المقال مقاماً آخر. وليس ذلك سوى واحد من التجلّيات الجماليّة ليقين الشاعر المفارق ليقين النسق، لذلك وُضع الشاعر، والطفل، والمجنون في خانة واحدة.

لابدّ للشاعر من أن يجد طريقة ليعيد علاقته بالمتلقّي، فقد طالت عزلته، ربّما لأنّه صدّق أنّ عليه أن يقول، سواء أَاكترث الناس بقوله أم لم يكترثوا. على الشاعر أن يكترث باكتراث المتلقّي، ولعلّ عدم الاكتراث ذاك يعود إلى فهم الشعراء العرب العبارتين الثقافيّتين الآتيتين بحرفيّة: «لم لا تفهم ما يُقال!» و «أنام ملء جفوني عن شواردها...»، وهما في الحقيقة ليستا سوى عبارتين هما قائلاها، أي (أبو تمّام)، و(المتنبّي)، والعبارتان حركتا مخاتلة ليس إلاّ، بل هما مهربان. أعتقد أنّ على الشاعر أن يواظب على الدعوة للشعر مثل نبيّ دؤوب، وهذا لا يتأتّى إلاّ إذا أخذ دور صاحب الرسالة، (ولا نقصد المحتوى الإديولوجيّ) الذي يجهد كل الجهد ليوصل رسالته إلى متلقّيها، في حين نجد شعراء الحداثة عموماً أخذوا دور ساعي البريد، الذي يكتفي بإلقاء الرسالة في الصندوق المقصود، من غير أن يعبأ بتغيّر عنوان المرسل إليه، أو سفره، أو موته، فتقع الرسالة بيد آخر، أو تضيع في الطرقات.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7875» ثم أرسلها إلى الكود 82244

حلب
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة