Culture Magazine Thursday  24/06/2010 G Issue 316
الملف
الخميس 12 ,رجب 1431   العدد  316
 
الخمائل والأزهار
أ.د. عبدالحميد إبراهيم*

-1-

الرجل هو الأسلوب.

ترى الدكتور: محمد بن عبدالرحمن الربيِّع فتحس أنك إزاء مثقف متنوع الثقافة، ويحدثك فينتقل بك من فنن إلى فنن، كما النحلة تنتقل بك من زهرة إلى زهرة. وتقرأ أسلوب الربيِّع، فتحس أنه صورة منه، ينتقل بك من معلومة، إلى قصة، إلى مأثورة، إلى بيت من الشعر.

والنتيجة يوحي بها عنوان ذلك الكتاب، حديقة مليئة بالخمائل والأزهار، الطعوم والروائح والألوان مختلفة ومتنوعة، والنتيجة في النهاية نشوة، يحسها كل من يتجول بين الخمائل والأزهار.

-2-

الكتاب ينقسم إلى أربعة أقسام: البحوث، والمقالات، والأحاديث، وأدب الأطفال. ولكن كل هذه الأقسام تخضع لروح واحدة، ووراءها جميعاً فنان واع بما يريد. هو كفنان يريد أن يمتع القارئ، بتلك النشوة الغنية، وهو كواع بما يريد لا يدخل القارئ في تجريدات أكاديمية معقدة، وفي الوقت نفسه لا يهبط به إلى سطحية مبتذلة، ومن هنا قلنا: إن الروح واحدة، فالبحوث ليست مليئة بالتبجح الأكاديمي، والأحاديث ليست سطحية مبتذلة، وكل ما في الكتاب من بحث أو مقال أو حديث، يندرج تحت شيء واحد، هو تلك المقالة الأدبية، التي تثير النشوة الفنية.

-3-

وتعبير النشوة الفنية هو المعادل العصري لتعريف (الحديث) عند أبي حيّان التوحيدي، فقد أورد في الليلة الأولى من (الإمتاع والمؤانسة)، حواراً بينه وبين الوزير حول معنى الحديث، ينتهي إلى أن الحديث هو الجدة والتنوع، وغير ذلك مما يؤدي إلى المتعة والمسامرة عند أبي حيّان، أو إلى النشوة الفنية على حد التعبير المعاصر.

وذلك هو هدف التأليف عند القدامى، يجمعون بين أشياء متنوعة كالباقة الجميلة، تثير النشوة الفنية من خلال ألوانها ومناظرها، ومن هنا سمى ابن عبدربه كتابه (العقد الفريد)؛ لأنه يجمع بين الياقوت والمرجان واللؤلؤ والزبرجد، مما يشكل في النهاية عقداً فريداً وجميلاً.

-4-

ولم يقف الربيِّع عند مفهوم التأليف لدى القدامى، بل أضاف إليه بعداً معاصراً، يمكن أن نتبينه في أمرين:

أولهما: يتعلق بالقضايا المطروحة الآن في الساحة الأدبية.

والآخر: يتعلق بالمنهج العصري في معالجة تلك القضايا.

-5-

الدكتور محمد الربيِّع يُطل على القضايا العصرية الراهنة من أوسع أبوابها، ويمكن أن نتبين ذلك خلال بعض عناوينه على النحو الآتي:

دراسة الظواهر الأدبية، المذاهب الأدبية وجذورها الفكرية، تمثيليات تاريخية، الأديب ومصطلحات العلوم الأخرى، تكامل العلوم والتخصصات الدقيقة، حقائق الأحداث بين التاريخ والأدب، تطبيقات الأدب المقارن على آداب الشعوب الإسلامية، وإعداد المتخصصين في أدب الأطفال.

-6-

حقاً، إن موضوعات التراث تضرب بسهم وافر في كتاب الربيِّع، لكن معالجته لقضاياه، قديمة أو حديثة، تفيد من الإنجازات الحديثة للمناهج العلمية المعاصرة.

فالربيِّع قد كتب عن الجاحظ خمس مقالات في هذا الكتاب، هي على الترتيب:

مظاهر الحياة الاجتماعية في كتاب البخلاء، المؤتمر العام لبخلاء البصرة، الجاحظ والحنين للأوطان، الجاحظ والبلاغة الهندية، الجاحظ والفهم الدقيق لمشكلات الترجمة.

حقاً، إن الربيِّع في هذه المقالات، كمثال، قد اقتبس الكثير من نصوص الجاحظ، وجعل القارئ يعايش استطراداته، من الجد إلى الهزل، ومن الشعر إلى النثر، ومن القديم إلى الحديث، ومن الإنسان إلى الحيوان، لكن الربيِّع، وهنا إضافته، يوظف الإنجازات الحديثة للمناهج المعاصرة.

حقاً، كان ذلك على استحياء شديد، خشية أن يؤدي الإسراف في ذلك إلى البعد عن شخصية الجاحظ وعن نصوصه الأدبية، ولكنه على أي حال قد أفاد من المناهج الحديثة وهو يطل على الجاحظ، ما يمكن أن نرصده في أمور كثيرة، منها:

أ- الإفادة من إنجازات العلوم الاجتماعية.

ب- الإفادة من إنجازات العلوم النفسية.

ج- الإفادة من مناهج النقد الحديثة.

-7-

أما الإفادة من إنجازات العلوم الاجتماعية، فيمكن أن نتبينه في مقالته عن (مظاهر الحياة الاجتماعية في كتاب البخلاء). فالقدماء لم يربطوا، إلا عرضاً، بين أدب الجاحظ ومجتمعه، لكن الربيِّع يجاهر في صراحة تامة بهذا المنهج، ويقول في أول مقالته:

يعد الجاحظ من النقاد الاجتماعيين، وذلك لما اشتملت عليه كتبه من نقد لأحوال المجتمعات الإسلامية، وإيضاح لكثير من الظواهر والصفات، التي برزت في هذا المجتمع الكبير، نتيجة لاختلاطه بالأمم المجاورة.

وكان الجاحظ واقعياً في أدبه، يعتمد على تصوير الواقع ونقده وتحليله، وكأنه يؤمن بأحدث التعريفات للأدب، وهو أن الأدب نقد للحياة، لذا جاء أدبه أقرب إلى الموضوعية وحياة الأمة من غيره من الكتاب.

-8-

وفي مقالته عن (المؤتمر العام لبخلاء الجاحظ)، يوظف الدكتور الربيِّع المنهج النفسي في تحليل شخصياته، أنه لا يقف كما فعل القدماء عند إيراد الأخبار عارية دون تعليق، يل يحاول أن يستنبط ما وراء الأخبار، وأن يستخدم إنجازات علم النفس التحليلي، للتسلل إلى داخل الشخصية، والكشف عن دوافعها ومسوّغات تصرفها، فيقول:

(والجاحظ محلل نفسي أيضاً، فقد حلل نفسية البخلاء في كتابه هذا، ونفسية الحاسد في رسالته (فصل ما بين العداوة والحسد)، وهنا بجملة واحدة حلل نفسية البخيل فقال: فبينما أنا أدافع الأيام).

-9-

وفي المقالة نفسها يطبق الدكتور الربيِّع (تكنيك) القصة الحديثة على واحدة من قصص الجاحظ، فيقول:

وهذه القصة تنطبق عليها إلى حد ما شروط القصة الحديثة، فهي تبدأ بحديث: (وهو مرضه، ثم يطور هذا الحدث إلى أن تصل إلى عقدة القصة (فينما أدافع الأيام إذ قال لي بعض الموفقين عليك بماء النخالة))، ثم تأخذ في التدرج إلى الحل، والحبكة الفنية في القصة متوافرة، ولم يتدخل الكاتب مباشرة في قصته، بل اختفى وراء البطل، وتركه يحكي قصته بنفسه).

حقاً، قد يقرأ بعض النقاد قصة الجاحظ بطريقة أخرى، يستخلص منها قواعدها الخاصة، دون أن يطبق قواعد حديثة اجتلبت من فن حديث له ظروفه التاريخية، لكن يبقى أن قراءة الربيِّع اجتهاد ناقد، يفيدنا في تحديد منهج الربيِّع ومصادر منهجه في كتابه (خمائل وأزهار).

-10-

نحن إذن أمام بعدين يشكلان منهج التأليف عند الربيِّع، أولهما طريقة القدماء، فينتقي من كل حديقة خميلة، ويقطف من كل بستان زهرة، والبعد الآخر يتمثل في الرؤية العصرية، وتوظيف المناهج الحديثة، فلا يقف عند حد إيراد النصوص الأدبية، بل يتغلغل إلى ما وراءها من مظاهر اجتماعية، وتحليلات نفسية.

ولكي نستكمل أبعاد المنهج عند الربيِّع، يمكن أن نضيف بعدين آخرين هما: الجانب الأكاديمي عند الربيِّع، وريادته لجوانب طريفة ومجهولة، أو قل باختصار: في بعد واحد يشكل ملمح الأستاذ الجامعي عند الربيِّع.

-11-

الربيِّع أستاذ جامعي، عينه دائما على تلاميذه، وكل بحث أو مقالة أو حديث في هذا الكتاب، يكاد يتحول إلى تخطيط لرسالة جامعية.

فهو، من باب المثل، قد كتب أربعة أحاديث تدور حول موضوع واحد، وهي:

أ- نجديات الأبيوردي.

ب- نجد في شعر الشريف الرضي.

ج- نجد في شعر ابن خاتمة الأنصاري.

د- المقامة النجدية الأندلسية.

فهذه الأحاديث يمكن أن تتحول إلى رسالة جامعية، وحول (صورة نجد في الأدب العربي)، وما كتبه في هذه الأحاديث يمكن أن يكون تخطيطاً لهذه الرسالة، يغطي كل أبوابها وفصولها.

-12-

يقول الربيِّع ص: 186 من كتابه:

(وما أحلى ارتياد المجهول!).

وتكاد هذه الجملة تنطبق على منهج الربيِّع خلال هذا الكتاب، فهو يرتاد مناطق مجهولة، لا يلتفت إليها الكثير، خذ مثلاً بعض العناوين كشاهد على هذا المنهج:

الفرزدق يحاور الشيطان، ذئب وثلاثة شعراء، الجاحظ والحنين للأوطان، الحرب في كتاب العقد الفريد، الأجوبة المسكتة, طيف الخيال في الشعر العربي، الجاحظ والبلاغة الهندية، أدب المهجر الشرقي، العربية لغير المتخصصين، تطبيقات الأدب المقارن على آداب الشعوب الإسلامية، الأطفال والتراث العربي.

فهذه الموضوعات طريفة، لا يلتف إليها الكثير من الباحثين ممن تجذبهم الموضوعات التقليدية، ويفضلون السير في الطريق المعبّد، والربيِّع في منهجه خلال هذه الموضوعات، يحاول أن يستثير الشباب، لكي يستكشفوا هذه المناطق المجهولة.

-13-

إن منهج الدكتور محمد الربيِّع يتألف من ملامح عديدة، تتداخل وتتآزر، لتشكل فيما بينها ثوباً جميلاً مزركشاً، قل هو كالعقد الفريد، أو كالإمتاع والمؤانسة، أو قل كما قال المؤلف هو الخمائل والأزهار.

* رئيس جماعة التأصيل الأدبي بالقاهرة
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة